ثمن المحروقات في محطات الوقود بالحسيمة بعد زيادة جديد في الاسعار    زياش يعبر عن فرحته بالانضمام للدوري القطري    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    في ظل السياسة اللااجتماعية للحكومة.. نقابة تدعو إلى إضراب عام وطني إنذاري الأربعاء المقبل    ارتفاع العجز التجاري بنسبة 7,3 في المائة خلال 2024 (مكتب الصرف)    الثعلب وحظيرة الخنازير    لمن تعود مسؤولية تفشي بوحمرون!    فينيسيوس : رونالدو قدوتي وأسعى لصنع التاريخ مع ريال مدريد    الملك محمد السادس يبعث برقية تعزية ومواساة إلى الرئيس الأمريكي إثر الحادث الجوي بواشنطن    حالة حزن تسود الوسط الإعلامي.. الصحافي أيوب الريمي في ذمة الله    المغرب التطواني يتمكن من رفع المنع ويؤهل ستة لاعبين تعاقد معهم في الانتقالات الشتوية    حصبة قاتلة : ارتفاع في الإصابات والوفيات وجهة طنجة تتصدر الحصيلة    عاجل... فتح مراكز التلقيح الإجباري للتلاميذ ضد بوحمرون بدءا من الإثنين ومن رفض يتم استبعاده من الدراسة    لقجع: منذ لحظة إجراء القرعة بدأنا بالفعل في خوض غمار "الكان" ولدينا فرصة لتقييم جاهزيتنا التنظيمية    العصبة الوطنية تفرج عن البرمجة الخاصة بالجولتين المقبلتين من البطولة الاحترافية    توضيح رئيس جماعة النكور بخصوص فتح مسلك طرقي بدوار حندون    القاهرة.. اللاعب المغربي أمين جمجي يحرز لقب بطولة إفريقيا لكرة المضرب لأقل من 18 سنة    الولايات المتحدة الأمريكية.. تحطم طائرة صغيرة على متنها 6 ركاب    بنك المغرب : الدرهم يستقر أمام الأورو و الدولار    حفل توقيع بطنجة يحيي ذاكرة مجاهد مغمور في سجل المقاومة المغربية    المغرب يتجه إلى مراجعة سقف فائض الطاقة الكهربائية في ضوء تحلية مياه البحر    تبرع ملكي لبناء مسجد في متز الفرنسية: عمدة المدينة يرد بقوة على من يقف وراءهم العالم الآخر    ماركو روبيو: خدعنا الناس في الاعتقاد بأن أوكرانيا يمكنها هزيمة روسيا    وزير التربية الوطنية يلجأ إلى تفعيل الدراسة عن بُعد لإبعاد غير الملقحين من المدارس    "الاستقلال" يبعث رسائل الانتخابات من الصحراء .. وولد الرشيد يتوقع قيادة الحكومة    الكاف يكشف عن البرنامج الكامل للمباريات كأس أمم إفريقيا – المغرب 2025    غوغل تطلق أسرع نماذجها للذكاء الاصطناعي "Gemini 2.0 Flash"    وفاة كولر مبعوث الصحراء السابق    "بي دي اس" المغرب: حملة المقاطعة تسببت في اختفاء المنتجات المغربية من الأسواق الإسرائيلية    انتحار موظف يعمل بالسجن المحلي العرجات 2 باستعمال سلاحه الوظيفي    توقيف شخصين بالبيضاء للاشتباه في تورطهما في قضية تتعلق بالتزوير والنصب والاحتيال والسرقة    شخص يطعن والده في الشارع بأكادير: قسوة العقاب واعتبارات القانون في جناية قتل الأصول    صادرات المغرب الفلاحية إلى فرنسا تُستهدف بمقترح قانون فرنسي    القاطي يعيد إحياء تاريخ الأندلس والمقاومة الريفية في عملين سينمائيين    استعدادات لانعقاد الدورة الثانية من منتدى الترابط الماء-الطاقة-الغذاء-النظم البيئية بطنجة    السعودية تتجه لرفع حجم تمويلها الزراعي إلى ملياري دولار هذا العام    المغرب يعزز التزامه بحماية حقوق المهاجرين... سياسة شاملة من الاستقبال إلى الاندماج    التعاون والشراكة بين القوات المسلحة الملكية والمديرية العامة للأمن الوطني في مجال السينوتقني    الإعلان عن تقدم هام في التقنيات العلاجية لسرطانات البروستات والمثانة والكلي    غزة... "القسام" تسلم أسيرين إسرائيليين للصليب الأحمر بالدفعة الرابعة للصفقة    العلاقات بين مالي والمغرب.. تاريخ طويل من التعاون والتحديات    المغرب يرفع التحدي ويبهر العالم.. ملاعب عالمية في وقت قياسي بأيدٍ مغربية    لجنة برلمانية في مجلس المستشارين تصادق بالأغلبية على مشروع القانون المتعلق بالإضراب    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    محاضرة بأكاديمية المملكة تُبعد نقص الذكاء عن "أطفال صعوبات التعلم"    حركة "إم 23" المدعومة من رواندا تزحف نحو العاصمة الكونغولية كينشاسا    بركة يناقش تدبير ندرة المياه بالصحراء    هواوي المغرب تُتوَّج مجددًا بلقب "أفضل المشغلين" لعام 2025    المهرجان الدولي للسينما بدبلن يحتفي بالسينما المغربية    "النجم الشعبي" يستحق التنويه..    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    122 حالة إصابة بداء الحصبة بالسجون    الممثلة امال التمار تتعرض لحادث سير وتنقل إلى المستشفى بمراكش    الفنانة دنيا بطمة تغادر السجن    نتفليكس تطرح الموسم الثالث من مسلسل "لعبة الحبار" في 27 يونيو    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتقال الديمقراطي في المغرب بين التناوب المغدور و التناوب المهدور
نشر في صحراء بريس يوم 23 - 04 - 2016

رغم ما للتاريخ من أهمية في فهم الواقع الحالي، السياسي منه والاجتماعي والثقافي وغيره، فإني لن أغوص في تفاصيل الماضي البعيد؛ بل سوف أقتصر على ما بعد سنة 1998؛ وحتى بالنسبة لهذه الحقبة القصيرة، فسوف أقصر اهتمامي على حكومتي عبد الرحمان اليوسفي وعبد الإله بنكيران، باعتبارهما يشكلان مرحلتين فارقتين ومتباينتين - في "تجارب" ومحاولات الانتقال التي عرفها المغرب منذ الاستقلال (انظر عرض اليوسفي ببروكسيل سنة 2003، الموقع الرسمي للاتحاد الاشتراكي)- سواء من حيث ظروف النشأة أو من حيث الانعكاس على المجال المؤسساتي والبناء الديمقراطي.
في التناوب الديمقراطي المغدور
لقد وُسمت التجربة الحكومية التي قادها الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي (وهو ائتلاف حكومي يتكون من 7 أحزاب، نواته الصلبة تشكلت من أحزاب الكتلة الديمقراطية) ب"التناوب التوافقي". وهو توافقي باعتبار الاتفاق الحاصل بين القصر في شخص الملك الراحل، الحسن الثاني، وبين المعارضة التاريخية، في شخص الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي.
وقد كان التناوب توافقيا لكونه لم يكن ناتجا لا عن انتخابات غير مطعون فيها ( لقد أجمعت الأحزاب على التنديد بالانتخابات التشريعية لنونبر 1997) ولا عن تحالفات سياسية حرة وإرادية؛ بل كان "نتيجة اتفاق بين الملك الحسن الثاني، المالك لكل السلطات، والمعارضة التاريخية في المغرب"(عرض اليوسفي ببروكسيل، نفس المرجع). ولم يكن التناوب التوافقي يشكل، حسب الاتفاق العام، إلا مرحلة انتقالية من أجل الوصول إلى التناوب الديمقراطي. وقد كان منتظرا أن تنتهي هذه المرحلة الانتقالية مع الانتخابات التشريعية لشتنبر 2002.
لن أتناول أسباب نزول التناوب التوافقي ودواعيه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بما في ذلك مرض الملك الراحل الحسن الثاني. ولن أقف عند الشروط النفسية والأجواء العامة الإيجابية التي صاحبت تشكيل حكومة التناوب التوافقي؛ الشيء الذي ساهم في انتقال هادئ للمُلك. كما أني سوف لن أطيل، حين أعرض، في الفقرات أدناه، لبعض منجزات حكومة اليوسفي التي تمكنت من إنقاذ البلاد من السكتة القلبية التي كانت على وشك أن تقع.
لكن، لا بد أن أسجل بأن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي قاد التجربة الحكومية- بعد أربعة عقود من المعارضة الشرسة من أجل الديمقراطية في مواجهة الاستبداد والطغيان والفساد؛ تلك المعارضة التي خاضها الاتحاد على كل الواجهات، سواء من داخل المؤسسات التمثيلية أو من داخل المؤسسات الاجتماعية والثقافية والحقوقية... مما خلف العديد من الضحايا بسبب القمع الشرس الذي سُلِّط عل نضالاته السياسية والنقابية والحقوقية (انظر تقارير هيئة الإنصاف والمصالحة)- قد انحاز إلى مصلحة الوطن على حساب مصلحة الحزب، حين استنجد به الملك الراحل الحسن الثاني، بعد توصله بالتقارير الدولية المنذرة بقرب حدوث الكارثة .
لم يتبن الاتحاد الاشتراكي الموقف السهل المتمثل في مقولة "لِّي دارها بْيَدِّيه يْفَكْها بْسَنِّيه"؛ ذلك أن مصلحة الوطن، بالنسبة إليه، فوق كل اعتبار (ولا غرابة في ذلك؛ أليس الاتحاد استمرارا لحركة التحرير الوطنية؟)؛ ولم يعمل على ابتزاز الدولة (أو بالأحرى النظام) باستغلال الظروف العصيبة التي كانت تمر منها البلاد، وظروف مرض الملك الراحل.
لقد عملت حكومة اليوسفي على فتح الأوراش الكبرى وتأهيل القطاعات الأساسية وتقليص المديونية الخارجية... لما في ذلك من آثار إيجابية على النسيج الاقتصادي والاجتماعي. وواجهت الطوارئ بحلول إبداعية لتفادي الكارثة الاجتماعية (مواجهة آثار الجفاف، نموذجا). وفتحت العديد من ملفات الفساد في المؤسسات العمومية والشبه عمومية. ولم تهمل الورش التشريعي في هذا المجال (قانون الصفقات، مثلا). كما أنها انكبت على معالجة بعض الأوضاع الاجتماعية وتداركت التأخير الحاصل فيها (تسوية ملفات العديد من فئات موظفي الدولة...)، إلى غير ذلك من المنجزات.
باختصار شديد، لقد عملت حكومة اليوسفي، رغم الثغرات، كل ما في وسعها لتحسين صورة المغرب لدى الرأي العام الخارجي وتحسين الأوضاع الداخلية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا وثقافيا...رغم قصر مدتها ورغم أن دستور 1996 لم يكن يعطي للوزير الأول اختصاصات واسعة (بالمقارنة مع الدستور الحالي)؛ بل كان يركز كل السلط في يد الملك؛ وكان هامش المبادرة ضيقا جدا؛ بينما حجم الانتظارات كان كبيرا وكبيرا جدا.
ونسجل أن الناخبين منحوا ثقتهم، في الانتخابات التشريعية لشتنبر2002، للحكومة بقيادة عبد الرحمان اليوسفي، وبوؤوا حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المرتبة الأولى. وهو ما يعني رضاهم عن أداء الحكومة ورغبتهم في أن يستمر اليوسفي في قيادة دفتها.
لكن، جرت رياح السياسة بما لم ترغب فيه أصوات الناخبين. فبدل أن يستمر اليوسفي وزيرا أول، تم تكليف رجل الأعمال "إدريس جطو" بتشكيل الحكومة. لن أطيل في الحيثيات ولن أُفصِّل في الأسباب والمبررات التي اعْتُمدت للخروج عن المنهجية الديمقراطية (لمن يريد أن يعرف الكثير عن هذا الموضوع، أنصحه بقراءة الملف الموجود بالعدد 30 من مجلة "زمان"، أبريل 2016، تحت عنوان: "من أفشل التناوب؟").
غير أن عدم احترام المنهجية الديمقراطية قد سدد ضربة قوية، حتى لا نقول قاضية، للتجربة الفتية والواعدة؛ لذلك نعتبر التناوب الذي قاده اليوسفي تناوبا مغدورا (أو هو "مُجْهَض" حسب تعبير الصحافي "محمد الطائع" في كتابه "عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض").
وقد كان رد فعل قائد هذا التناوب المغدور متأنيا وحكيما؛ فلم يكن لا مباشرا ولا آنيا؛ إذ في البداية، تم الاكتفاء ببيان المكتب السياسي الذي عبر عن استياء القيادة الاتحادية من الخروج عن المنهجية الديمقراطية. ولما انعقدت اللجنة المركزية للحزب، انتهى بها المطاف، رغم أن الاتجاه العام كان ضد المشاركة في حكومة جطو، إلى التفويض للمكتب السياسي صلاحية تدبير المرحلة بما يراه مناسبا للوضع السياسي الجديد. وقد تم، بعد تفكير طويل، اتخاذ قرار المشاركة في الحكومة.
وكما يتحدث عن ذلك الأستاذ اليوسفي نفسه، فقرار المشاركة من عدمها لم يكن من السهولة التي يلوكها البعض لِيُرَجِّح، في هذا الباب، كفة جاذبية المناصب الوزارية. لقد تطلب الأمر إعمال التفكير مليا في كل جوانب الموضوع، قبل الإقدام على اتخاذ القرار. ويقول اليوسفي في هذا الصدد: "وفي الحقيقة، لقد وجدنا أنفسنا مرة أخرى أمام اختيار صعب، مفاده أن عدم مشاركتنا هو الحكم بالفشل على التجربة برمتها. وكان لزاما علينا أن نتساءل حول إمكانية الانتقال الديمقراطي عن طريق التوافق، هذه الطريق التي أردنا أن نقدمها كمثال يحتذى من طرف دول العالم الثالث في الوقت الذي أضحت فيه الديمقراطية مطلبا عالميا.
أما عن مشاركتنا، وبغض النظر عن عدد وأهمية الحقائب الوزارية المحصل عليها، فكانت تعني أننا نزكي المنهجية غير الديمقراطية في الانتقال الديمقراطي، مع افتراض وجود إرادة سياسية حقيقية لتحقيق هذا الانتقال"(انظر المرجع السابق).
وبعد الانتخابات الجماعية لشهر أكتوبر 2003، قدم عبد الرحمان اليوسفي استقالته من الاتحاد الاشتراكي واعتزل السياسة. وقد ترك هذا القرار تأثرا بليغا لدى جزء كبير من الرأي العام المواكب للحياة السياسية بالبلاد. أما بالنسبة للحزب، فيمكن اعتباره زلزالا تنظيميا وسياسيا، رغم أن بلاغ المكتب السياسي قد حاول التقليل من تأثير هذا الحدث من خلال إعلان احترام إرادته والتنويه بشخصه وبمساره السياسي الحافل وبَرِّه بالقسم الذي أداه باسم الاتحاد الاشتراكي وهو يودع قائده الكبير عبد الرحيم بوعبيد، بالإضافة إلى تقديره الكامل للطريقة الحضارية التي اتخذ بها قراره "والتي جعلت حزبنا يعرف لأول مرة في تاريخه اعتزال مسؤوله الأول وهو محط تقدير واحترام لكافة مناضليه، بعدما فقد في السابق قادته الكبار شهداء سقطوا في ساحة الدفاع عن الحرية والكرامة، أو مناضلين شرفاء اختارهم الله إلى جواره"(من بلاغ المكتب السياسي).
وكان اليوسفي قد ألقى في فبراير 2003 عرضا/خطابا سياسيا ببروكسيل (أحلنا عليه أعلاه في بعض الفقرات)، رأى فيه المتتبعون نقدا ذاتيا وتشرِيحا لأسبب فشل الانتقال الديمقراطي في المغرب. ويعتبر عرضه، بحق، وثيقة تاريخية وشهادة حية، ليس فقط بالنسبة لفترة حكومة التناوب التوافقي، بل لكل محاولات الانتقال الديمقراطي التي عرفها المغرب منذ الاستقلال والتي تم إجهاضها.
ويكفي الرجوع إلى نتائج الانتخابات التشريعية للولاية الموالية، أي انتخابات سنة 2007، لمعرفة الحجم الحقيقي لآثار الخروج عن المنهجية الديمقراطية وإفشال الانتقال إلى التناوب الديمقراطي. فقد عرفت هذه الانتخابات أدنى نسبة مشاركة (37%، بما فيها الأصوات الملغاة، وهي مرتفعة جدا) في تاريخ الانتخابات بالمغرب، رغم الخطاب الملكي (وهي أيضا سابقة) الذي حث الناخبين على التوجه بكثافة إلى صناديق الاقتراع.
ومن أبرز ضحايا الخروج عن المنهجية الديمقراطية (إلى جانب الديمقراطية نفسها، بحيث لم يفض التناوب التوافقي إلى التناوب الديمقراطي) الاتحاد الاشتراكي الذي قاد التجربة. فقد تدحرج في انتخابات 2007 من المركز الأول إلى المركز الخامس. وهذا يعني أن الفئات التي كانت تصوت على الاتحاد الاشتراكي هي التي تشكل الغالبية العظمى من الذين تخاصموا مع صناديق الاقتراع. ولا يزال الاتحاد يعاني من هذا الوضع إلى اليوم.
وقد نجد لهذه الخصومة سببين رئيسيين: فإما أنها تعني الاحتجاج على الحزب لكونه استمر في المشاركة في تدبير الشأن العام رغم عدم احترام المنهجية الديمقراطية، الذي يؤشر على عدم وجود رغبة حقيقية في الانتقال الديمقراطي(وهو ما يبيح لنا الحديث عن "التناوب المغدور"، كما أسلفنا)؛ وإما أنها تعني الوصول إلى قناعة بعدم جدوى الانتخابات ما دامت لا تفضي إلى الانتقال الديمقراطي. وهو، في الواقع، تعبير عن اليأس بسبب الإخفاقات المتتالية في هذا المجال.
أمام هذا الوضع، كان لا بد من البحث عن مكمن الداء. وهذا ما دفع الاتحاد الاشتراكي إلى جعل مسألة الإصلاحات السياسية والدستورية من أولوياته. وهكذا، حَيَّنَ، في البيان الختامي لمؤتمره الوطني الثامن (نونبر 2008)، مطلب الملكية البرلمانية الذي سبق أن رفعه سنة 1978 خلال مؤتمره الثالث. وفي ماي 2009، أي قبل الانتخابات الجماعية لتلك السنة، رفع الاتحاد مذكرة مطلبية حول الإصلاحات الدستورية. وقد قام بهذه الخطوة لوحده، بعد أن اعتبر حلفاؤه بأن الوقت غير ملائم لذلك.
وسوف ينصف التاريخ هذه المبادرة ويزكي وجاهتها، حين جعلت حركة 20 فبراير (النسخة المغربية لما سمي ب"الربيع العربي")، سنة 2011، الملكية البرلمانية كسقف لمطالبها. وسوف يستجيب الدستور الجديد (دستور فاتح يوليوز 2011) لأكثر من 90% من مطالب الاتحاد الاشتراكي، من قبيل احترام المنهجية الديمقراطية، منع الترحال السياسي، فصل السلط، استقلالية القضاء، توسيع اختصاصات رئيس الحكومة، ربط المسؤولية بالمحاسبة، التعيين في المناصب السامية بمرسوم وليس بظهير، الخ. وحتى مطلب الملكية البرلمانية لم يهمله الدستور الجديد، وإن كانت صياغته قابلة لكل التأويلات. فقد جاء في الفصل الأول منه: "نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية، برلمانية واجتماعية".
لكن، هل يكفي أن يكون لنا دستور متقدم لكي يحدث الانتقال الديمقراطي بالمغرب؟ بالطبع لا. فالديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيين، فكرا وممارسة؛ وتحتاج إلى مؤسسات قوية ورجال ونساء ذوي كفاءة وخبرة وقائد للسفينة الحكومية ذي حنكة وكفاءة عالية وأخلاق رفيعة، تجعله يتعالى عن الحسابات الحزبية الضيقة ويضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار؛ وتحتاج، أيضا، إلى احترام المواثيق والعهود واحترام الدستور وكل ما هو من صميم دولة الحق والقانون.
في التناوب المهدور
لقد شكلت الانتخابات السابقة لأوانها لنونبر 2011 حدثا سياسيا بارزا، لكونها، من جهة، أول انتخابات تجري في ظل الدستور الجديد؛ ومن جهة أخرى، أفرزت حزبا أغلبيا (فاز ب 107 مقعدا؛ وهذا العدد فاجأ ليس فقط الرأي العام، بل حتى الحزب المعني بهذا الفوز)، لم يسبق له أن شارك في تدبير الشأن العام، وكان مناهضا لحركة 20 فبراير، صاحبة الفضل في التسريع بالإصلاحات الدستورية (أُذكِّر، في هذا الصدد، بالمذكرة المطلبية للاتحاد الاشتراكي في ماي 2009 حول الإصلاحات الدستورية، التي لم يتلق عليها الحزب، حسب علمي، أي جواب من الجهات المعنية) وما تلا هذه الإصلاحات من محطات سياسية.
وطبقا للدستور وعملا بالمنهجية الديمقراطية ، سوف يعين الملك السيد "عبد الإله بنكيران"، الأمين العم لحزب العدالة والتنمية، رئيسا للحكومة، لكون حزبه تبوأ المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية لنونبر 2011.
فمن حيث الشكل ، نحن، إذن ، أمام تناوب ديمقراطي، لكون الحكومة، برئيسها ومكوناتها، إذا استثنينا الوزراء "التقنوقراط"(وهذه قصة أخرى، لها ما لها وعليها ما عليها)، منبثقة عن صناديق الاقتراع. فالأغلبية الحكومية تشكل، مبدئيا، تحالفا حرا، أي غير مفروض بتدخل من الدولة.
هذا، من حيث الشكل. أما، من حيث المضمون، فنحن أمام حكومة لا علاقة لها بمفهوم التناوب الديمقراطي. ففي الممارسة، هي تنزع نحو الاستبداد وتحن إلى ممارسات العهد البائد( بكل ما يعنيه هذا الوصف من معاني قدحية) أو ما نسميه بسنوات الجمر والرصاص. ويتجلى هذا في تعامل الحكومة مع الحركات الاحتجاجية ومع المطالب الاجتماعية. فقد عاد قمع الاحتجاجات السلمية إلى ضراوته وتراجعت المكتسبات الديمقراطية والحقوقية والاجتماعية... بشكل يبعث على القلق.
أما في ما يخص الخطاب، فقد أدخلت الحكومة (وأساسا رئيسها)، في خطابها السياسي، قاموسا هجينا وبعيدا كل البعد عن المفاهيم الديمقراطية وعن الرصانة والجدية المطلوبة في التعامل مع الفرقاء السياسيين والاجتماعيين، سواء داخل المؤسسات أو خارجها؛ وكذا مع القضايا الأساسية للبلاد، السياسية منها والاجتماعية والثقافية والحقوقية وغيرها؛ ناهيك عن أسلوب التعالي والعجرفة الذي يطبع مسؤولي العدالة والتنمية، بدون استثناء، إلا في ما ندر.
لقد كنا نأمل أن يتعزز بناؤنا الديمقراطي مع الدستور الجديد، خاصة وأنه متقدم جدا، بالمقارنة مع الدساتير السابقة. فقد وسَّع بشكل كبير من اختصاصات وصلاحيات رئاسة الحكومة. وهذه النقطة، بالذات، تعتبر قفزة نوعية لكون تركيز السلطات كلها في يد الملك كان يشكل عقبة حقيقية أمام تحديث الدولة ودمقرطتها وأمام العمل المؤسساتي.
لكن ما حدث هو أن رئيس الحكومة قد تخلى عن الكثير من هذه الاختصاصات بذريعة أنه لا يرغب في الاصطدام مع الملك (أُذكِّر، هنا، بالجدل القانوني والدستوري والسياسي الذي أثاره أول قانون تنظيمي صادقت عليه الحكومة، والذي أُطلق عليه، إعلاميا، قانون ما للملك وما لبنكيران؛ ويتعلق الأمر بقانون التعيين في المناصب السامية) وكأن ممارسة الاختصاصات الدستورية لا تروق الملك ولا يرغب فيها.
وهذا القول في حد ذاته ينم عن عقلية متشبعة بفكر غير ديمقراطي وغير دستوري. فإذا كان الدستور يؤكد، في تصديره، بأن الاختيار الديمقراطي لا رجعة فيه، أي أنه أصبح من الثوابت؛ وإذا كانت الخطابات الملكية تعيد دائما التأكيد على هذا الاختيار، فلن نفهم من إقحام "بنكيران" للملك والملكية في خطاباته، بمناسبة وبدونها، سوى بحثه الدؤوب عن ذرائع للتنصل من مسؤولياته السياسية والمؤسساتية والدفع بالتناوب الديمقراطي في اتجاه الاستبداد. وهذا ما دفعنا إلى الحديث عن "التناوب المهدور"، أي الضائع.
وما المسؤول عن ضياعه سوى من أَوْكلت إليه صناديق الاقتراع قيادة هذا التناوب، طبقا للدستور. ويكفي أن نستحضر ما قاله أخيرا من كونه مستعدا للدفاع عن الملك حتى ولو أدخله السجن.
ونرى في مثل هذا الكلام تجنيا على الدستور وقصورا أو تقصيرا في إدراك محتواه ومهام كل مؤسسة من مؤسساته؛ بل إن مثل هذا الخطاب يحمل، بوعي أو بدونه،من جهة، الكثير من عدم الاحترام للمؤسسات الدستورية، وعلى رأسها المؤسسة الملكية؛ ومن جهة أخرى، يهدف إلى إفراغ باقي المؤسسات الدستورية- ومنها رئاسة الحكومة والبرلمان والقضاء والمعارضة وغيرها- من محتواها.
فكلام "بنكيران" عن احتمال سجنه من قبل الملك، يطرح العديد من التساؤلات، من قبيل: . هل هو جهل أو تجاهل لأسمى قانون في البلاد، الذي ينظم العلاقة بين السلط؟ وهل هو غباء سياسي؟ (لا نظن ذلك) أو استغباء للغير؟ (ممكن جدا). ما ذا سيفهم القضاة وكل المدافعين عن فصل السلط من هذا الكلام، وهم يستحضرون نضالهم من أجل تفعيل استقلالية السلطة القضائية التي نص عليها الدستور؟ وما ذا سيفهم الديمقراطيون وكل الفاعلين في المجال السياسي والنقابي والحقوقي والثقافي... الذين يعلمون أن السلطة القضائية هي الركيزة الأساسية للدولة الديمقراطية؟ وغير ذلك من الأسئلة كثير !!!
وإذا ما استحضرنا السياق التاريخي لهذا الكلام (فنحن على مشارف الولاية الحالية؛ بمعنى أننا في سنة انتخابية بامتياز)، ندرك الخطورة الحقيقية التي ينطوي عليها مثل هذا الخطاب الذي يدعو- حسب تعبير الأخ "يونس مجاهد" في عموده اليومي "بالفصيح" بجريدة "الاتحاد الاشتراكي"(الاثنين 18 ماي 2016)- إلى الاستبداد ويعلن استعداد حزب العدالة والتنمية "لقبول وتبرير كل أنواع الاستبداد إذا بقي في السلطة"، أي إذا تصدر الانتخابات المقبلة (و"الفاهم يفهم !").
فبدل أن يعمل السيد "بنكيران" على استثمار سلطاته الدستورية الواسعة لتعزيز المكتسبات الديمقراطية وتوسيعها باعتماد التأويل الديمقراطي للدستور، راح يجتهد في إفراغ الدستور الجديد من محتواه ويقدم الدليل تلو الآخر بأن ما يهمه ويهم حزبه هو الهيمنة والاستحواذ على مؤسسات الدولة والمجتمع، وليس تعزيز البنيات الديمقراطية.
وأفضل وسيلة لبلوغ هذا الهدف، هو الإجهاز على المكتسبات الديمقراطية، بما في ذلك تلك التي قدم من أجلها الشعب المغربي وطليعته في النضال التضحيات الجسام. وهذا ليس مستغربا من رجل لم يساهم أبدا في النضال الديمقراطي، بل أتى إلى المشهد السياسي من خلال بوابة العداء للديمقراطية. أُذكِّر، هنا، بعلاقة الرجل ب"إدريس البصري" والدكتور "عبد الكريم الخطيب" الذي احتضن رفاق "بنكيران" في حزبه الإداري "الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية" قبل أن يتحول إلى حزب العدالة والتنمية.
خلاصة القول، يشبه الانتقال الديمقراطي بالمغرب أسطورة "سيزيف". فكلما اقتربنا من تحقيق الهدف إلا وتم التدخل لإعادة عقرب الديمقراطية إلى الوراء، لنجد أنفسنا إما أمام حالة تناوب مغدور أو حالة تناوب مهدور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.