من العوامل الرئيسية وراء تعثر ما ينعث بالإسلام السياسي في طرح مشروعه وإثبات وجوده الفعلي منذ الاستقلال إلى الآن، هو ضبابية المشروع ذاته، وعدم قيامه على رؤية تستند على مرجعية أصولية صارمة كأساس لأي ممارسة سياسية، إضافة إلى ضعف الاستيعاب والتقدير الصحيحين لمكانتها في مجتمعها، بما يعني عدم تقدير نوع وحجم احتياجات مجتمعها لها، في ظل واقع عالمي يمارس ضغطا واستقطابا متعدد الاتجاهات والمجالات، كما أنها يعوزها الإدراك الحقيقي لطبيعة القوى المناوءة لها محليا وعالميا، وكذا التمثلات المتشكلة عنها، والأخرى السائرة في طريق التشكل. ونحن سنعالج انطلاقا من هذا المقال المقتضب، مصدرا دقيقا من مصادر تضبيب الرؤية لدى الإسلاميين، وسببا أساسيا في تأزيم تواجدها وعملها، إنها الإشكالية التي صاغها الشيخ أحمد الريسوني على شكل قاعدة فقهية، ألا وهي الاقتباس من الغير لما فيه مصلحة وخير، وبالضبط سنركز على قضية اعتماد الإسلاميين على الخيار الديموقراطي في مشاركتهم السياسية، وسعيهم في ظلها للوصول إلى الحكم، والحكم بمقتضى مبادئها، بما لا يتناقض مع الأحكام الإسلامية.
إن المشكلة التي تواجهنا في قضية الأخذ بالديموقراطية، في الممارسة السياسية من عدمه، متعددة المصادر والمنافذ والأوجه، فمن الغلط الشائع الاعتقاد بكون الديموقراطية مجرد سلوكات وآليات تقنية لتنظيم التداول السلمي على السلطة وفي التدبير، تمنح من خلالها للشعب السلطة في اختيار من يتولى أموره. والحقيقة أن الديموقراطية فكرة قابلة للنمو والعيش، والتمدد والتقلص، نسبية وحاملة للتناقضات، بالقدر الذي يحصل من تطورات للإطار الفكري العام الذي أنتجها، ويعمل دوما على إعادة إنتاجها، ذلك أن التنظيمات السياسية الغربية تنتمي لبراديغم مادي، على خلاف الفكر السياسي الإسلامي الذي يقوم على أساس إيماني،بما يعنيه ذلك من استحالة التناقض بين العقل والنص، أي مؤطر بضرورة الاستناد إلى الوحي.
وتجذر الإشارة هنا أننا نقف على قضية محسوم فيها من طرف الكثيرمن العلماء والمفكرين، والدعاة، وقياديين لأحزاب وحركات إسلامية، من أمثال راشد الغنوشي، يوسف القرضاوي ،محمد عمارة،أحمد الريسوني، الحسن الترابي، حاكم المطيري، وغيرهم كثرمن المقاصديين...ممن يجيزون اعتماد الديموقراطية الغربية في الممارسة السياسية، لكونها لا تتناقض مع عمق الدين، ومقاصد الشريعة، ولا تتصادم مع مبادئ العدل والشورى الإسلامية.
بخصوص قبول هؤلاء الأخذ ببعض التنظيمات والأفكار الغربية في المجال السياسي، من قبيل الديموقراطية وسلطة الأغلبية والبرلمان...، فإنه اعتبارا للمستوى العلمي والإيماني لهؤلاء، أي إحساسهم بالمسؤولية، قد اجتهدوا فعلا في تقديم آرائهم حول الأخذ بالممارسات الديموقراطية في سبيل أسلمتها، وليس اجتهادات تأصيلية وممأسسة، رغم انتمائها لبراديغم ومنهج مخالفان مطلقا للتصور العام للمشروع الوجودي للإسلام. إننا حينما نتأمل في القضايا التي أبدى فيها هؤلاء الفضلاء اجتهاداتهم ، يمكن للبعض منا أن يستنتج أنهم فعلا قد بلغوا مستويات متقدمة جدا من الفهم للدين، بالصورة التي تجعلهم إيمانيا، يبدون سابقين لزمانهم، أو يمثلون حالة متفردة في الواقع الإسلامي. فهذا العالم المقاصدي ذائع الصيت أحمد الريسوني في تصريحاته وكتبه ولقاءاته، يلح على ضرورة الأخذ بالنظم الديموقراطية شريطة تنقيحها وتصحيحها وفق التراث الزاخر الذي خلفه الفقه الإسلامي، وبعد إخضاعها لضوابط ومقاصد الإسلام ومبادئه وأخلاقه.علما أن الفكر السياسي الإسلامي على مر التاريخ إلى الآن، لازال في حاجة إلى التأسيس والبناء والتأصيل، والتراث الفقهي نفسه لم يخص السياسة بنفس العناية التي خصها لباقي الأصول والفروع، وأغلب هذا التراث إذا ما استثنينا فترة الخلفاء الراشدين الأربعة، دون في فترة تميزت بالتوتر على مستوى الحكم والسلطة.
لا أحد يجادل أن الاستفادة من تجارب الأمم وخبراتها فيما لا يتناقض مع الدين، لها اقتباسات من القرآن الكريم، وإجراءات اعتمدها النبي صلى الله عليه وسلم، وسنة اتبعها الخلفاء الراشدين من بعده، خاصة عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه في قضية الدواوين الفارسية أوغيرها.إلا أنه في اعتقادي لا يسعنا معياريا أن نقيس على هذه الاجتهادات، في الأخذ بالديموقراطية في وقتنا الحاضر، أو نحمل مقاصد الشاطبي بنظرة الطاهر بن عاشور مالا تحتمل، ذلك أن التفوق العلمي والإيماني، أهل الفضلاء أمثال الريسوني في فهم مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، لربما بشكل أقرب إلى الفهم العمري، ولكن أين هو المجتمع الإسلامي العمري موضوع الاجتهاد الفقهي؟ بل أين هو هذا المجتمع العمري حتى داخل صفوف الحركات الإسلامية؟ والمطلوب والمنتظر منهم القدرة على فهم واستيعاب اجتهادات العلماء وتنزيلها على أرض الواقع.
إنه من واجبنا حينما نفكر في اجتهادات الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، أن نتساءل عن مستوى التدين، ومراتب الإيمان لدى الجماعة الإسلامية آنذاك، ومستوى فهمها واستيعابها لدينها، ذلك الإيمان الذي أنتج حالة قوية من الحضارة، ومن الواجب علينا أن نتساءل عن مستوى الوهج الإيماني في القلوب، وتمثلاته في حياة الناس اليومية.هذه هي الخلفيات التي تساعدنا على فهم سر إقدام الصحابة في الاستفادة من الآخر، واحتضانه وحمايته والتسامح معه في حدود شرع الله، هذا الشرع الذي كان مفهوما، ومسعود به ومطبقا بين الناس، وقد تأتى ذلك للمجتمع بفضل نجاح العمل الدعوي، وهكذا فالقوة الحضارية للمسلمين آنذاك كانت تؤهلهم لتطويع باقي الحضارات والثقافات والنظم.علما أن غالبية التنظيمات التي أخذت عن الآخر كانت تنتمي لحضارات تحتضر،ولم تكن آنذاك تشكل خطرا على الدولة الإسلامية مثل الفرس أو الروم، على عكس الغرب حاليا.
أما حال المسلمين في الوقت الحاضر،هم أبعد بكثير عن مفهوم الأمة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر، ممزقون على شكل جماعات في أوطان شبه مستقلة على مستوى النظم، معولمة حول الأخذ بالديموقراطية، التي لم تأتيهم أبدا بالسلم والعدل والسلام. فلقد عاش العالم العربي والإسلامي مرحلة الغزو العسكري، والذي رافقه وتبعه الغزو الفكري بشكل مكثف، وهو ما جعل الفكر العلماني يتمكن من شريحة واسعة من المجتمع، إما عن وعي وقصد واجتهاد وتحكم من طرف الأقلية المتنفذة المتحكمة من سياسيين واقتصاديين وإعلاميين وفنانين وغيرهم، أو عن غير وعي، وهو حال الغالبية في المجتمعات العربية ممن تفسر سلوكاتهم صراعا هوياتيا داخليا، ما بين التمسك بالهوية الإسلامية المغربة، والانجرار للثقافة الفاسدة الوافدة.
وهكذا فالديموقراطية كفكرة وآليات لم تفرض نفسها على تفكيرنا بشكل عفوي، كمرحلة متقدمة جدا وفعالة للخروج من إشكالية الحكم والتداول على السلطة في بلداننا الإسلامية، وإنما هي ظاهرة قسرية أرساها الاستعمار، وزكاها ورسخها بعد الاستقلال، وجعلها معيارا للاستقرار السياسي للبلدان ومقياسا للنجاح التنموي، بشرط أن لا تفرز غير العلمانيين في السلطة.
إن النقاشات حول مشروعية الأخذ بالديموقراطية من عدمه، أجده من النقاشات الخادعة داخل الجماعات الإسلامية وبين العلماء والمفكرين، فالنقاش الحقيقي والجاد، والذي نحن في أمس الحاجة إليه، ليس هوالانغماس في تنقيح وتصحيح وتأصيل ما لا يتحمل ولا يتقبل التأصيل من الإنتاجات الفكرية للعلمانية، وإنما العودة إلى النص بنظرة جديدة ورأى متحررة من التأويلات الزمنية، والعودة إلى ما ليس فيه خلاف من التراث لقراءته قراءة محترمة وعميقة، فتوضيح ومأسسة ما ليس فيه خلاف يزيح الخلاف عن الجزء المختلف فيه.إن الأجدر مادام الجميع متفق على كون الشورى مبدأ أساسيا من مبادئ الإسلام لكون ورودها في القرآن الكريم،وعمل النبي صلى الله عليه وسلم بها، وكذا الصحابة الكرام، وما دام لم يتم تنظيمها ولا مأسستها، الأولى بنا الاجتهاد في ظل ثوابتنا، بذل السعي إلى أسلمة الديموقراطية، وهي عملية محفوفة بالمخاطر من استنزاف للوقت والجهد وإهدار للتراث، والنتيجة تعميق الخلاف بين العلماء والمسلمين كافة، وتشويب العمل الإسلامي.
إن الأخذ بالديموقراطية إضافة نوعية لباقي الأسباب المختلفة المتضافرة لفشل التجربة السياسية في الحكم في التاريخ العربي الإسلامي بعد الخلفاء الراشدين، وتعثرها حاليا، وهي عدم التخلص من فكرة القبيلة والعصبية، وحب السلطة والمال، وكذلك الإيديولوجيا والحزب، والجماعة، والزاوية والشيخ والطريقة، والحركة، والتنظيم والجاه... على حساب الاعتبارات والجوانب الإيمانية العقدية الخالصة، الروحية منها والعملية، بما هي حاكمية تكوينية وتشريعية تعبدية، بل ونستشف من التاريخ الإسلامي والحاضر، وجود تعايش غريب بين الدوافع الإيمانية، وترسبات الجاهلية في الحياة السياسية العربية، وهذا أخطر تناقض عاشته وتعيشه التجربة السياسية للشعوب العربية الإسلامية، دفعت الأمة ثمنا باهضا بسبب ذلك ولازالت. إن ضبابية الرؤية التي يعيشها الإسلام السياسي، أحدثت لا استقرارا في نفسية الحركة الإسلامية، في كوادرها وقاداتها ودعاتها، وأجنحتها ومؤسساتها وتنظيماتها. وإننا حقيقة لنجد كثيرا من سلوكات المنتسبين للحركات الإسلامية، لا تفسر حملهم لهم نهضوي إسلامي، بقدر ما تجدهم أميل لهموم المناصب، والأدوار، والمصالح، والأحقاد النفسية الداخلية الجاهلية، في حين نجد القلة القليلة من قاداتها السياسيين المتعبين في الحفاظ والإبقاء عليها داخل المعترك السياسي والتدافع المجتمعي، يغالون كثيرا في الحسابات السياسية الضيقة،بشكل أقرب إلى السلوك السياسي العلماني،وأبعد ما يكون عن المرجعية الإسلامية في التدبير، بصورة يختلط فيها الحابل بالنابل، ولا تتبين الإسلامي من غيره إلا بالألقاب، أو حين تشير إليه الأصابع، وهو ما يجعل بعض أفرادها المهمومين بالتأصيل الشرعي من داخل الأجنحة الدينية، محرجين أحيانا، ومتناقضين دائما أثناء الحوارات التي تفرض عليهم، مابين التمسك بالمدخلات الشرعية من جهة، وكذا الثناء والتحفظ على بعض مخرجات التجربة السياسية للإسلاميين من جهة أخرى.