لم تكن اوضاع السودان بعد الأستقلال لتختلف عن سابقها إبان الفترة الأستعمارية حيث تراوحت بين الأستقرار والتدهور وكان السودانيون هنا هم من يتحمل المسؤوولية . فعند اجتماع البرلمان السوداني 1955 ليتناول اقتراح الأستقلال عن مصر طرح الأعضاء الجنوبيون قضية قيام نظام فدرالي ثمنا لموافقتهم على ذلك ،وقد وافق الزعماء الشماليين على النظر في هذا المطلب في صياغة جاءت على النحو التالي“: إن رجاء أعضاء البرلمان الجنوبيين بوضع نظام فدرالي في الجنوب سوف يعطى اعتبارا تاما في الجمعية التأسيسية عند قيامها“. وفي عام 1958 عند تأليف لجنة إعداد مسودة الدستور الدائم لم تشر المسودة للنظام الفدرالي مما اعتبره الجنوبيون نقضا للعهود وبررت القوى الشمالية ذلك بانقلاب عبود الذي قطع الطريق على إجازة الدستور الدائم، ومن ثم في النظر إلى مطالب الجنوبيين، وخاصة بعدما حضر الأحزاب وجرم المناداة بالفدرالية وإبعاد المبشرين عن جنوب السودان. فبدأت أولى عمليات التمرد على الشمال ونفي العديد من الجنوبيين إلى الدول المجاورة منهم القس ساترينو لاهوري وجوزيف ادوه وماركو روم ومايكل طويل ووليم دينق، وواجهت الحكومة العسكرية هذا التمرد بالعنف المسلح فتنامى الرفض الشعبي للحرب الأهلية مما عجل بسقوط نظام عبود، وقيام حكومة أكتوبر 1964 بقيادة سر الختم الخليفة التي استوعبت الجنوبيين في حكومة اتحادية بعد العفو العام عن عدد كبير منهم بمن فيهم الذين كانوا في المنفى وفي الغابة وانعقد مؤتمر المائدة المستديرة مابين 16و 29 مارس 1965 في جو تميز بالانفعال العاطفي والغضب وعدم الثقة في الشماليين وانقسمت منظمات الجنوب إلى ثلاث مواقف : جبهة الجنوب التي طالبت بمنح الجنوبيين حق تقرير المصير و حزب سانو الجناح الخارجي الذي طالب بفصل الجنوب عن الشمال و حزب سانوا الداخلي بقيادة وليم دينق الذي استقر رأيه على الرغبة في الوصول إلى تسوية تمكن الجنوبيين من الرقي الاقتصادي والاجتماعي وتوفير سبل المساواة بين مواطني السودان عامة . وقد استنكر المؤتمر استخدام الأنيانيا للعنف الذي لم يفلح احد في وقفه . وفي يونيو من نفس السنة أجازت الجمعية التأسيسية بالإجماع اقتراحا يخول للحكومة المركزية صيانة القانون والنظام في المديريات الجنوبية، و فسرذلك على أنه بمثابة حرب على الأنيانيا وتفاقمت المشاكل بشكل جعلت العديد من الجنوبيين يلجؤون للدول المجاورة في وقت فشلت فيه مقترحات لجنة الأثني عشر الخاصة بوضع تصور حول الفيدرالية أوالحكم الذاتي المحلي للجنوبيين وطريقة انتخاب ممثليهم في عضوية مجلس السيادة وعدد الأقاليم التي يمكن تقسيم البلاد إليها . وبعد سنة جاءت حكومة الصادق المهدي فانعقد مؤتمر الأحزاب برئاسة محمد صالح الشنقيطي بمقاطعة حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي ولم يدعى حزب سانوا الخارجي ولم يحسم المؤتمر القضايا الخلافية ، وفي عامي 1968/ 1969 انسحب الأعضاء الجنوبيين ورفضوا أي تفاوض مع الشمال لأتجاه البلد نحو رسم دستور إسلامي بضغط من جبهة الميثاق بقيادة الدكتور حسن الترابي. ليأتي انقلاب جعفر النميري مايو 1969 كرد على قوة الأسلاميين وفي سبتمبر توفرت أسباب كثيرة شجعت الجيش على استلام السلطة ومنها وثوقه من مواجهة الحقائق واعترافه بالفوارق التاريخية والثقافية بين الشمال والجنوب وأن وحدة الوطن تبنى على هذه الحقائق الموضوعية ، وأنه من حق أهل الجنوب أن يطوروا ثقافتهم وتقاليدهم في نطاق سودان موحد. وفي مارس 1972 قام جوزيف لافو قائد قوات الأينانيا وزعيم حركة تحرير السودان ومعه وزير الخارجية حكومة النميري بالتوقيع على اتفاق أديس أبابا الذي تكون من ثلاث بنود رئيسة : - تحديد سلطات الحكم الذاتي في مديريات الجنوب وتنظيم العلاقة بين الحكومة المركزية والأقليم الجنوبي ، وتوفير الضمانات السياسية والحريات العامة وتكوين جيش السودان ونسبة الجنوبيين فيه ، والترتيبات المالية . - اتفاق وقف إطلاق النار. - البروتوكولات التي تحدد الترتيبات الأدارية المؤقتة وكيفية تشكيل وحدات القوات المسلحة في الجنوب ، والعفو العام ، ولجان ‘إعادة التوطين والإغاثة وإعادة التعمير والتأهيل لمدن الجنوب السوداني. وقد حظيت هذه الاتفاقية بتأييد كبير في جميع أنحاء السودان. إلا أن عوامل عديدة أدت إلى انهيارها ومنها غلى سبيل الذكر : - فشل خطة استيعاب قوات التمرد في الجيش الوطني ، وعودة الكثير منهم الى الغابة. - عدم الأتفاق على التقسيم الترابي للجنوب . - اكتشاف النفط بالجنوب والريب المتبادل بشأنه بين الجنوبيين والشماليين. - التراجع عن الترتيبات المالية وبعض الترتيبات الأدارية المنصوص عليها في الأتفاقية وإلغاء بعض سلطات مجلس الشعب الأقليمي في الجنوب . - سعي الشمال نحو الدستور الأسلامي وتطبيق الشريعة الأسلامية . - تنامي المعارضة الشمالية والجنوبية لنظام النميري . وقد وصف بعض الأكاديميين الشماليين الأتفاقية بإنها كانت اتفاقا بين صفوة الشمال وصفوة الجنوب لاقتسام مناصب السلطة واستغلال ثروة البلاد ووصفها مقاتلي الحركة الشعبية بأنها اتفاقية ساوم فيها الشمال نخبة الجنوب مقابل بعض الوظائف التي حرموا منها منذ 1956. وقد أورد المؤلف أبير ألير في كتابه –جنوب السودان – أن جون قرنق النقيب المستجد في قوات الأنيانيا في منطقة بور ومعه كثيرون ممن كانوا وراء حوادث التمرد منذ البداية كانوا ضد الأتفاقية من أولها . كما رفض الجنوبيون خطة الحكومة لتعميم التعليم بالجنوب وأعتبروا ذلك تعريبا لأبنائهم الأفارقة . وفي سنة 1983 فرضت القوانين الإسلامية في السودان وأصبح رئيس الدولة أميرا للمؤمنين. فانبرى جون قرنق لطرح سؤال أين يذهب غير المسلمين؟ و ظهرت الثورة مجددا في الجنوب وعبرت عن نفسها في هيئتين: - سياسية هي الحركة الشعبية لتحرير السودان . - عسكرية هي الجيش الشعبي بقيادة الدكتور جون قرنق. وقد حازت دعما عربيا وإقليميا لأنها ركزت على وحدة البلد والتنصيص على علمانيته .وكانت السعودية قد تخلت عن السودان بعد إعلان إمارة المؤمنين واعتبرت ذلك بمثابة إحياء لمهدوية السودان وسحبت بنك فيصل الأسلامي منه، وحصل على على إثر ذلك غلاء فاحش في الأسعار عجل بسقوط جعفر النميري ، وجاء بدله قائد الجيش عبد الرحمان سوار الذهب الذي سلم الحكم لحكومة مدنية بقيادة الصادق المهدي وعلى غرار ماسبق أعلنت الحكومة أنها بصدد وضع تدبير جديد لقضية الجنوب غير أن معالمه الكبرى لم تختلف عن تدبير النميري حيث رفضت الحكومة إلغاء الشرع الأسلامي، وتنامى العداء العربي لنظام السودان في مقابل تحسن سمعة الحركة الشعبية لتحرير السودان التي زحفت على الشمال، ولم يتم صدها إلا بإعلان الجهاد . وتأكدت مرة أخرى مقولة عجز الحكم المدني عن تسوية مشكلة الجنوب ، فسقطت الحكومة عام 1989 ، وجاءت حكومة البشير الذي كان قائد فرقة مدعوما بالشيخ حسن الترابي لتأكيد التوجه الأسلامي للبلد فصعدت الحركة الشعبية من خطابها وأصبحت تطالب بتحرير السودان ككل فانخرط في صفوفها العديد من شيوعيي الشمال وحتى بعض اللبراليين الغاضبين من الحكم الأسلامي، وبعض المثقفين الشماليين الغير متحزبين ودعمتها الجزائر وليبيا ومصر التي أصبحت متخوفة من نجاح مشروع البشير - الترابي فضلا عن دول أخرى كإثيوبيا وأوغندا وكينيا. وقد نجح جون قرنق في ضم قرى الدينكا والقبائل السودانية وامتد نفوذه العسكري إلى المناطق التابعة لتلك القبائل وهي النيل الأزرق وأبيي و جنوب النوبة وقام بتسليح ساكني تلك المناطق فأصبحوا قوة شعبية ضد القبائل العربية الرعوية كالمسيرية مثلا. امتد صراع البشير، قرنق 16 سنة تحرك فيها قرنق بقوة لكنه لم يحقق مكاسب كبيرة على الأرض بسبب النضال الجهادي لجنود الشمال الذي عوض ضعف إمكانياتهم وجعل الناس يتطوعون لحمل السلاح، وتحالف البشير مع إيران التي دعمته كحليف عربي إلى جانب منظماتها في المنطقة العربية كحركة حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي واعتمد الشمال بقيادة البشير طيلة عقد التسعينات على التعبئة الشعبية الداخلية ضد الغرب والمساندة الصينية داخل مجلس الأمن . وبعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 بدأ السودان سياسة جديدة قوامها اتقاء شر الحرب على الإرهاب وفتح صفحة جديدة مع الجنوبيين تجنب البلاد ويلات التدخل الدولي وتبديد الجهود والأموال في صراع لم يحسم لأي طرف.وفي التاسع من يناير 2005 تم التوصل إلى اتفاق سلام شامل. وقد بنيت الاتفاقية التى سميت باتفاق نيفاشا على ستة بروتوكولات جاءت بالتدريج منذ سنة 2002، وهى بروتوكول مشاكوس الذى وقع فى مدينة مشاكوس بكينيا في 20 يوليو 2002 حيث وافق الطرفان على إطار عام يضع مبادئ للحكم والعملية الانتقالية وهياكل الدولة والحكم وموضوع الدين بالإضافة إلى الحق في تقرير المصير لشعب جنوب السودان. أما البروتوكولات الخمسة الأخرى فهى بروتوكول الترتيبات الأمنية الذي وقع قى ضاحية نيفاشا، بكينيا، في 25 سبتمبر 2003، وبروتوكول تقاسم الثروة الذي وقع في نفس المدينة في 7 يناير 2004 وتضمن التنصيص على العديد من الأجراءات منها انشاء إدارة اسلامية لشؤون النقد في الشمال مقابل إدارة مالية جنوبية تقبل الأعانات الدولية . وفي مجال النفط يحصل الشمال والجنوب على نسبة 49% لكل منهما مقابل 2% للمنطقة التي وجد فيها النفط ، ويتسلم الجنوبيون مابين 700الى 800 مليون دولار سنويا من الشمال كإعانة حكومية . وبروتوكول تقاسم الثروة في نفاشا أيضا في 26 مايو 2004 وبرتوكولات أخرى لم تكن إجرائية وطغت عليها الضبابية كبروتوكول حسم الصراع في كوردوفان والنيل الأزرق وبروتوكول أبيي . وأدى زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان وقتها جون قرنق اليمين الدستورية فى التاسع من يوليو 2005 نائبا أول للرئيس السوداني عمرالبشير ،. ليشكل بذلك بداية فصل جديد في تاريخ السودان. ولكن حدثا مهما غير خارطة سير الأتفاق الشامل وهو رحيل الدكتور جون قرنق في حادث تحطم طائرته المروحية في رحلة في الثلاثين من يوليو 2005 بين جنوب السودان وأوغندا . وأدى سلفاكير ميارديت اليمين الدستورية نائبا للرئيس السوداني في 12 غشت 2005 خلفا لقرنق ، وتولى مهمة رئيس حكومة جنوب السودان ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، وبتوليه سيبدأ الجناح المؤيد للأنفصال في النشاط داخل الحركة الشعبية وسيبدأ خلق المشاكل بدءا من الأحتجاج على التمثيل النيابي للشماليين الذين احتكروا حسب سلفاكير 66% من المقاعد النيابية منها 52% للحزب الحاكم و14% للمعارضة الشمالية مقابل 28% للحركة الشعبية و6% للمعارضة الجنوبية .كما اتهمت أرملة قرنق في زيارة سرية لها لأحدى الجامعات الأمريكية الشمال بنهب النفط وعدم التصريح بحجم النتاج الحقيقي لحقول الجنوب ومن سنة 2007 إلى الآن تدهورت العلاقة كثيرا بين شريكي الحكم لتتخد أشكالا متعددة كصراع البيانات والمناوشات العسكرية الخفيفة بين أنصار كل طرف خاصة في منطقة أبيي وغيرها. وبدأ الجنوبيون في حملة انتخابية سابقة لأوانها للإستفتاء ، وحامت شكوك عديدة حول امكانية إجرائه في موعده المحدد خاصة بعد توتر علاقات الحكومة السودانية مع الغرب بشأن الصراع في دارفور وخلفياته الحقيقية. .بيد أن ذلك سرعان ما تبدد مع مطلع السنة الجارية حيث نظم استفتاء تقرير المصير في موعده وينتظر أن تعلن النتائج في الأيام القليلة المقبلة . * طالب باحث معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة.