أهم ما أثار انتباهنا كمتتبعين للانتخابات الجهوية والجماعية لسنة 2015 هو الفوضقراطية التي ميزت مسار تشكيل المجالس المنتخبة، والتي أظهرت بشكل جلي أسباب عمق أزمة الأحزاب السياسية من خلال طبيعة التحالفات المبرمة بين الأحزاب و العوامل المفسرة لها. فهذه الأخيرة تشرح لنا بشكل ضمني على أن علاقة بعض الفاعلين الانتخابين الفائزين والشأن السياسي هي علاقة نفعية مصلحية تفرغ الفعل السياسي من كل حمولة أخلاقية، و تضفي عليه طابعا براغماتيا صرفا يستغل من طرف هؤلاء الفاعلين من أجل شرعنة استراتيجياتهم الانتخابية.هذا المعطى يجعلنا نعيد النظر في تعريف الفعل السياسي وعلاقته بالفعل الانتخابي مع التركيز على عنصر هام يتمثل في المنطق الذي يحكم هذه العلاقة. ولفهم هذا المنطق يجب علينا استحضار البناء الاجتماعي للسياسة بالمغرب (la construction sociale de la politique)، الذي بفضله نستطيع الكشف عن محتوى الأفكار و التمثلاث الذهنية المحددة لممارسة الفاعل السياسي للسياسة. من النتائج العكسية لطبيعة التوافقات المبرمة بين الأحزاب من اجل تشكيل هذه المجالس هو أنها تهمش المرجعيات الإيديولوجية للأحزاب، و تزكي تلك الصورة السلبية التي يكونها بعض المواطنين إن لم نقل جلهم حول دورها التأطيري و السياسي. كما تطرح علامة استفهام حول جدوى النتائج الانتخابية التي تمنح الفوز لحزب يضع يده في يد حزب أخر مختلف عنه على المستوى الإيديولوجي، لكن بدون أن ننسى أيضا دور نظام الاقتراع باللائحة في بلقنة المشهد السياسي و التحكم القبلي في النتائج اعتمادا على منطق انتخابي انعكس سلبيا على مصداقية الاقتراع.
إن الطرق والوسائل المتبعة من طرف بعض وكلاء اللوائح الفائزة بغية قيادة المجالس الجماعية والجهوية تعتبر من أهم أشكال الفوضقراطية التي أصبحت تقف حجرة عثرة أمام وضع أسس الديمقراطية الانتخابية بالمغرب، وذلك بفتحها المجال أمام مجموعة من السلوكات والممارسات التي تتنافى مع قواعد اللعبة الانتخابية والالتزام بالاحترافية في مزاولة العمل السياسي حسب المنظور الفيبيري للمصطلح. هذا ما قد يجعل مسلسل الجهوية ومسار الإصلاح السياسي والإداري مرتهنا ببعض الفاعلين، و بقيم سياسوية تحتم علينا طرح تساؤل استباقي و نقدي: هل يمكن ضمان نجاح سياسة التحديث والإصلاح في غياب فاعلين مؤمنين بفكرة الإصلاح؟
من هذا المنطلق نود التأكيد على أن أزمة الفاعلين السياسيين قد تعرقل نجاح مشروع الجهوية الموسعة، لأن الشروط التي صاحبت تشكيل بعض المجالس المنتخبة لا تمهد الطريق لإرساء أسس الإصلاح الإداري الهادف إلى إحداث انتقال على مستوى تسيير الشأن المحلي.
لقد اعتبرت الاحتجاجات التي عرفتها كل من أقاليم كلميم و طانطان بمثابة رد فعل مضاد للفوضقراطية الانتخابية الممارسة من بعض وكلاء اللوائح الفائزة برسم استحقاقات 4 شتنبر 2015. إذ تحمل هذه الاحتجاجات في طياتها الكثير من الدلالات والحمولات السياسية التي لا يمكن قراءتها في إطار نسق انتخابي ضيق، بل العكس هي ترجمة لتراكم مشاعر الإحباط و السخط بين صفوف المحتجين على الوسائل المتبعة من طرف بعض الأعيان الانتخابيين في تسيير الشأن المحلي. لأن توظيفاتهم السياسوية و الانتخابوية لمفهوم التنمية جعلت منه موردا إيديولوجيا غَذَّى إنتاج السياسات العمومية من طرف هؤلاء الفاعلين المنتخبين بعدة قيم متناقضة مع متطلبات الحكامة. هذا بالإضافة إلى إخضاع تسيير المجالس المنتخبة لأسلوب » سلطوي « ساهم في تقوية الدور السياسي لهؤلاء الأعيان الانتخابيين ، الأمر الذي أثار الكثير من الجدل حول الدور الفعلي للقانون في تحديد الأدوار المؤسساتية للمنتخب. هذا دون أن ننسى مثلا أن تنزيل مخططات التنمية على المستوى الميداني بإقليم كلميم نتج عنه ظهور ما نسميه ''بنقمة التنمية'' التي حولت شوارع هذا الإقليم إلى مسرح لعدة وقفات احتجاجية عكست شعاراتها الإحساس بفقدان الثقة في المؤسسات، و المطالبة بتفعيل مبدأ المحاسبة. هذا ما جعل وزير الداخلية في احد اجتماعاته بالساكنة بجهة كلميم وادنون يؤكد على ضرورة أن يثق المواطنون في الدولة.
تقترن قراءة و تحليل الفعل الاحتجاجي بكلميم بمجموعة من المعطيات والمؤشرات أهمها ديمغرافي متمثل في بروز الشباب كفاعل في معادلة التغيير بالمنطقة. إلى جانب المؤشر الديمغرافي هناك كذلك مؤشرا اجتماعيا متجليا في طبيعة الشعارات المرفوعة في الوقفات الاحتجاجية، و التي تؤشر على الانتقال من وعي قبلي إلى وعي مجالي متمثل في جعل حب المنطقة والدفاع عنها ضد " لوبيات الفساد" بمثابة قيم ‘'مقدسة ‘'في نظر الشباب المحتج وفي نفس الوقت مرجعية تعبوية توحد جميع المكونات الإثنية للمنطقة.
من أهم ما يمكن كذلك استخلاصه من قراءتنا الأولية لما عرفته جهة كلميم وادنون من احتجاجات هو : * ظهور الفاعل النسوي كطرف أساسي في عملية الاحتجاج، * الاستفادة من وسائل الاتصال الاجتماعية (شبكة الفيسبوك) التي ساهمت في نضج الشروط القبلية للاحتجاج ، والتعبئة له عبر احتجاج افتراضي يؤسس لقيم واستعمالات جديدة لهذه الوسائل، * ارتفاع درجة التسييس لدى الفئات المحتجة نتيجة الاهتمام بالشأن المحلي، مع بروز وعي سياسي جديد ، * أصبح الاحتجاج أكثر من أي وقت مضى، شكلا غير تعاقدي بامتياز لممارسة السياسة، * اقتناع الشباب المحتج بأهمية الانتخابات في إحداث تغيير سياسي بالمنطقة.
نضع هذه القراءة الأولية بين أيدي القراء بعد تكوين المجالس الجهوية و البلدية، مع الإشارة إلى كون التعمق في هذه القراءة يتطلب دراسة ميدانية ، لاشك أن جدواها العلمي سيكون مفيدا لكل مهتم رغم التعقيدات الميدانية التي تجعل من الصعب فهم ما يقع بالأقاليم الصحراوية بدون ربطه بعدة متغيرات تحيلنا هنا على منهج ادغار موران, (Edgar Morin) الذي يلح من خلاله على ضرورة الإحاطة بجميع عناصر الواقع لفهم تركيبته المعقدة.