هل أقول إن إنصاتي لدبيب المعنى في النص الديني جعل عقلي يحلق فوق حدود المعتاد التفسيري، ويثير الشكوك حول ما كنت أعتقده حقيقة جازمة مفارقة للبشري ومحايثة لسرمدية المعنى الإلهي والحقيقة الدلالية الأولى؟ هل أقول إن استقلالية العقل من حمولة التربية الأولى يحتاج إلى المران على التمرد ومقاومة التكلس والكساد المعرفيين ليبارز جنود المعنى القديم في حلبة الصراع حول المعاني الجديدة؟ كنا نتقلى مسائل الفكر والخطاب الدينيين باعتبارهما بدهيات دينية ومسلمات أرثوذكسية لا يصلها سهم النقد ولا ترتقي إليها يد إنسان، وكلما سمعنا شيخا يحدث، قلنا سمعنا وأطعنا، وكلما قيل لنا إن الله قال، قلنا إننا هنا نسلم لله بما يقول، فأصبحنا أمة الطاعة بدون نزال، وعقولا كسولة لا تسائل في أخص ما يخص علاقتها بالرحمان. لذلك مرت 1400 سنة بدون إنتاج يذكر، ولا صوت يسمع، اللهم بعض أشعار المتنبي صدعوا بها رؤوسنا وما يزالون، أو بعض مقامات الهمذاتي والحريري حمّلها الدارسون أكثر مما تحتمل، أما ما ينتج حاليا في الفكر والنقد والإنتاج الأدبي وغير ذلك فيكفيه من القصور أنه سلعة الغرب "الكافر والجاحد". هذا التكلس الفكري إزاء مسائل الدين جعل العقل يزدري القراءات الجديدة للنص الديني وينفر منها، ويطمسها إن استطاع إلى قاعدة تغيير المنكر سبيلا؛ وأمثلة ذلك جمة لا تحصى، وهي التي كانت سبب تحبير هذا الكلام، ولذلك أشير إلى أن المقال لا يسعى إلى تحريم أو تحليل شيء، بل يقدم قراءات ممكنة لبعض الظواهر السوسيودينية التي تنوّلت في النص والخطاب الدينييين. لنأخذ مثلا مسألة "تعدد الزوجات"؛ لقد ورد في سورة النساء من القرآن الكريم ما يلي: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ" (الآية. 3). لقد كان الخطاب الإسلامي قد تعمد تجاهل الوظيفية النحوية لحرف "الواو" الرابط بين "مثنى وثلاث ورباع"، وهي الجمع وليس التخيير، أي أن العدد سيصبح "تسعة" عوضا عن "أربعة" بغض النظر عن "قالت العرب" التي يستشهدون بها كلما أرادوا تكريس معنى معين على حساب المعاني الأخرى، ومع ذلك سيتم تجاوز ذلك لضيق المقام عن المقال. لنلاحظ فقط أن عبارة "فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ" مشروطة ب"الخوف" من جهتين؛ الأولى هي الخوف من عدم القسط في الزواج من اليتامى، والثانية هي الخوف من عدم العدل بين النساء وهي الأساسية. نلحظ أن حربائية العقل المنتج للخطاب الديني أفضى به إلى القول بأن المقصود بالعدل ليس هو العدل العاطفي بل العدل المادي، ومن ثمة فقول الله عز وجل "وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا" (سورة النساء، 129) أصبح في نظرهم يعني العدل المادي فقط. ومن وجهة نظرنا، نظن أن عبارة "لن تستطيعوا أن تعدلوا ولو حرصتم" لا تشير إلى الجانب المادي لأنه ممكن التحقيق، فيما أن الجانب العاطفي مستحيل التحقيق، ومن ثمة نجد ملاءمة بين هذه الآية ومعناها الأقرب؛ أي الاستحالة في العدل العاطفي بين الزوجات. وبما أن الآية وردت جازمة بالحرف "لن"، فإن الخوض في دلالات أخرى هو بعد عن المقاصد الإلهية ورفض لرغباته في خلقه. إن تعدد الزوجات كان من سمات الجاهليين قبل الإسلام، فقد ورد في الحديث أن غيلان الثقفي أسلم وله عشر زوجات، وأن الحارث بن قيس الأسدي قال إنه أسلم وعنده ثمان نسوة، لهذا فتعدد الزوجات بصيغة ذكره في القرآن ليس سوى مجاراة لعادات العرب التي يعمل الإسلام على إزالتها شيئا فشيئا، ومن سوء حظنا أننا ابتلينا في زمننا هذا بأشباح ثيوقراطية في هيئة الفيزازي والريسوني والزمزي ومطيع وغيرهم من أشباح المشرق والمغرب، ينافحون عما أراده الله أن يزول، ويدفعون منجزات الغرب الكافر التي راكمت تجربة مهد البشرية. خلاصة الأمر أن تعدد الزوجات في أبعاده النصية والسوسيولوجية والتاريخية يبين لنا أن الأصولية الإسلامية تمارس أفعال كفر حين تخالف المقصدية الأصلية من التشريع، وهي "وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ". وأقول أفعال كفر استنادا إلى المرجعية النصية للأصولية في التكفير لا غير