كنت قد ولجت من باب المؤسسة التي أشتغل فيها، عندما اعترضتني لوحة إعلانات كتب عليها بخط طباشيري غليظ شديد و بأسلوب لا يقبل التأويل، أن السادة الأساتذة الآتية أسماؤهم قد تم توقيفهم عن العمل لعشرة أيام كاملة..و كم أحسست بنوع من الغبن و الأسى على ابتذال آخر ما يملكه المدرس المسكين المغلوب على أمره، و هو رأسماله الرمزي، و بهذه الطريقة القاسية التي جعلت خصوصياته مثل علكة فقدت حلاوتها تلوكها ألسن التلاميذ و من بعدهم الغوغاء من الناس...تخيلت الصورة أشبه بعقوبة أنزلها رب مزرعة لتربية الأبقار.. و أو رب مصنع لتعليب السردين في حق ثلة من أجرائه لينتقم من صنيعهم و يشمت فيهم و يردع من يفكر مثل تفكيرهم...و لعل مثل هذا الحكم الذي لم يتابع المتمدرسون فصوله و لا يعرفون وجوه القضاة الذين نطقوا به، لعله يربك موازين تفكيرهم و تقديرهم، المربكة أصلا، و يجعل النازلة تستعصي على أفهامهم و على أفهام أولياء صنائعهم..." راه الأساتذة متاوعنا وقفوهم على الخدمة! "..حلل و ناقش!..هل معنى ذلك أنهم وضعوا الأصفاد في معاصمهم و اقتيدوا إلى زنزانة موحشة تقتات من عفنها و نتنها الجرذان و الصراصير؟..أم تم نفيهم إلى جزيرة بعيدة ليموتوا جوعا و كمدا فتأكل الوحوش من أمعائهم الفارغة و الطير من رؤوسهم ؟..أم تم رميهم في بحر الظلمات ليقضوا ما بقي من أعمارهم في كروش الحيتان حيث ينعموا بالهدوء الذي افتقدوه و يراجعوا أخطاءهم إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا؟...طبعا هذه ليست بعض من تلك التخمينات التي ستبدعها مخيلة التلاميذ الذين سيجدون متعتهم و ضالتهم في تحويل هذه الكائنات البئيسة إلى مواضيع لتفكههم و طرائفهم، يتداولونها في مواقع "تواصل الخوا الخاوي"...و لكم سيكون سلوكهم هذا مبررا، سيما بعد أن كرس أهل الدار و مالكوها مثل هذه الصورة المبتذلة لرجل التربية و العلم...فأطلقوا الرصاص على أقدامهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون.. مازلت لحد الآن لم أستوعب دلالات و معاني ما أسموه ب" عقوبة التوقيف"، سيما أنهم يعتبرونها عقوبة أو تأديبا أو ردعا لمن يفترض أنه خالف القانون بامتناعه الإرادي عن العمل، احتجاجا منه و تعبيرا عن موقفه تجاه ما يراه ظلما لحقه و لحق ما تبقى من حقوقه الأساسية..و هذا هو الحمق بعينه و الجهل في أبشع صوره..أن تطفئ النار بالنار و تجفف البلل بالماء و ما شابه ذلك من سلوكات الحمقى و المغفلين!..و لعل مجلس المؤدبين الموقر، و هو يحاكم هؤلاء المخالفين، لم ير من وسيلة تربوية و قانونية ملائمة لتأديبهم و ثنيهم عن تمردهم غير معاقبتهم بجنس عملهم، و إجبارهم على التوقف عن مزاولة عملهم، و تمتيعهم مقابل ذلك بإجازة اضطرارية خالية من الطعم و اللون و القرش!...مما يعني أن ما يعتبرونه "مصلحة التلميذ" و حقه في التعلم، لم تكن غير ورقة يلعب بها من يفترض أنهم أوصياء على صبياننا و على مسيرة تنويرهم...و هكذا وجد هؤلاء المدرسون المساكين أنفسهم فجأة كالأيتام في مأدبة اللئام، و قد حجبوا عنهم رواتبهم و حوكموا و سيقوا إلى مجالس الحساب و العقاب زمرا..فافتضح أمرهم بين صبيانهم و صار ينظر إليهم كالمجرمين...و نحن و إن كنا لا نتفق مع الطريقة التي عبر بها زملاؤنا عن رأيهم و غضبهم، لما فيها من الاندفاع و سوء التقدير في الترجيح بين مفسدة و مصلحة أو بين مفسدة و مفسدة أكبر، فلا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نبرر قسوة المعاملة و الإهانة اللتين جوبهوا بهما.. فهم في نهاية الأمر و بدايته رجال تربية ينبغي أن نقدر دورهم و نحترم مكانتهم و كرامتهم، فلا نسويهم بالجاهلين أو المجرمين..( أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ مالكم كيف تحكمون؟!) آية... ليس نملك إلا أن نسأل الله أن يفرج عن إخواننا غمهم و يزيل همهم و ينور بصائرنا و بصائرهم بنوره الكريم، و يجعل أعمالنا و أعمالهم خالصة لوجهه الجليل إنه سميع عليم.