من التحديات الإساسية التي يواجهها الحق في الحياة كما هو مقرر في الشرائع السماوية وفي المواثيق الدولية هناك العقوية السالبة للحياة التي تنص عليها القوانين الجنائية الوضعية وقوانين مكافحة الإرهاب وبعض القوانين الأخرى، والتي مازال القضاء يحكم بها في بعض البلدان وتم تعليق تنفيذها في أخرى. إن السؤال الأساسي في هذا الصدد هو لمن الأولوية بالنسبة للحق في الحياة هل للمجتمع الآمن المستقر أم للفرد الجاني. وقبل ذلك ما هو موقع الحق داخل منظومة الإسلام المعرفية؟. الحق في الحياة في المنظومة المعرفية للإسلام يستند المطالبون بإلغاء عقوبة الإعدام على مبدأ الحق في الحياة لكن معرضيهم يستندون على ذات المبدأ لكن ليس بالنسبة لفرد واحد يعتبر معتديا بل بالنسبة لمجتمع وحقه في الحياة وفي الأمن والسلامة على أرواح جميع أفراده. ومن هذا المنطلق يكون الحق في الحياة أمام تحديات وعقبات يتعين مكافحتها. وذلك من خلال عمل تندمج فيه جهود الوقاية والتثقيف والتربية والتعليم إلى جانب الجهود الردعية بطبيعة الحال لكن دون إخلال بالإجراءات القانونية والإدارية وبالمساطر والضمانات القضائية. لقد ساهمت الأديان السماوية عامة والدين الإسلامي الخاتم على وجه الخصوص بأقدار معتبرة في تكريس الحق في الحياة للنفس البشرية ولمطلق الحياة، إذ اعتبر القرآن أن قتل نفس واحدة بدون حق يعد بمثابة قتل للناس جميعا كما اعتبر إحياءها بمثابة إحياء للناس جميعا، قال تعالى "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" . وتعزيزا للحق في الحياة نهى المولى عز وجل عن قتل النفس أو قتل الغير أو قتل الأولاد قال تعالى:" وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)" ، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً). ومنعا لقتل الغير قال تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" ، قال أيضا: "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا" ففي آية القصاص نستخلص كيف عالج القرآن الكريم أول عملية إهدار للحق في الحياة في جريمة القتل التي ارتكبها أبن آدم في حق أخيه بعد أن قربا قربان فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر أي القتل بدوافع الحسد، قال تعالى : "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ " . من ناحية أخرى يقول عز وجل: "وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)" ، هذه النصوص إنما شرعت القصاص للوقاية والردع الإستباقي في المقام الأول ومن أجل صيانة حياة المجتمع بشكل عام. ومن هنا لا يجب أن تختزل مثل هذه الايات في كونها تكريس "للقتل بالحق" فقط، نظرا لما يحيط ذلك من شروط وضمانات أهمها شرط عدم الإسراف الذي عقبت به الآية الكريمة على تقرير هذا الحق في إطار بحثها عن العدالة والإنصاف والمساواة في معالجة جريمة القتل المحتملة. إن الغرض من آية القصاص حسب الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار هو "إبطال ذلك الامتياز الذي للأقوياء على الضعفاء". ولذلك ينبغي قراءة هذه الآية في كليتها وفي تكامل أحكامها أولا باعتبارها تعالج جريمة القتل بعد وقوعها، وكذا باعتبارها تستبق وقوعها بالوعيد والتهديد، فإنها تقرر إلى جانب قاعدة المعاملة بالمثل قاعدة أخرى من الأهمية بمكان هي قاعدة العفو والتي تحرص على أن يقرن بإتباع المعروف في تقدير مبلغ الدية بالنسبة لولي الدم قال تعالى : " فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ " البقرة أية 178 . إن المقصد العام من هذه الآيات إلى جانب منع القتل إلا بالحق هو التشريع لخيار التراحم والتسامح والحرص على حقن الدماء بشرط الأداء بإحسان وعدم التسويف أو المماطلة فيما يتعلق بذوي القاتل يقول عز وجل " فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون" . ومن هنا فإمكانية العفو والتصدق يمكن بإعمال الاجتهاد والتجديد أن يؤسس لحل ينحاز إلى مزيد من تكريس الحق في الحياة في إطار المرجعية الإسلامية وانطلاقا من أحكامها. فالفرد المجني عليه قبل أن يكون منتميا إلى أسرة فهو ينتمي كذلك إلى مجتمع، والجناية التي وقع ضحية لها قد مست هذا المجتمع أيضا وبالتالي فالجريمة قبل أن تكون اعتداء على حق مدني فهي أيضا اعتداء على حق عام وبالتالي فإمكانية العفو التي تتيحها هذه الآية يمكن أن تمنح للسلطات المختصة التي تنوب عن المجتمع باعتباره من ذوي المقتول بالمفهوم العام للكلمة أو باعتباره صاحب الحق العام. لذلك فإن الدية ومختلف أنواع العقوبات التصالحية التي يكون الغاية منها محو الآثار الاجتماعية في الماضي والمستقبل من نفوس الضحايا ووأد الأحقاد والضغائن وروح الانتقام كلها مقاصد نبيلة كانت وراء فتح الباب للعفو والتصالح في آية القصاص وهو ما يمكن للعلماء اليوم أن يوظفوه لقراءة حقوقية ومنفتحة على القيم الإنسانية في التعامل مع هذه القضية لتكرس ما رسخ من كون الإسلام يعتبر في طليعة المبادئ والقيم التي ساهمت في حماية الحق في الحياة. وغير بعيد عن هذه المعاني يمكن التمييز في جزاء قتل النفس بالنفس أو لقاء الفساد في الأرض بين الجانب الدنيوي الذي يمكن أن تتحقق الأهداف منه بعقوبات بديلة تجبر ما لحق بالمجتمع وبالضحية من أضرار، وبين الجانب الأخروي الذي يرتب اشد العقاب وأوخم العواقب لمن فوت على نفسه التوبة التي لا تستثني إلا الشرك بالله . وفي نفس هذا المنحى جعلت السنة النبوية الصحيحة الحق في حياة النفس المؤمنة وحرمتها فوق قدسية الكعبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لهدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم، والذين نفسي بيده لزوال الدنيا أهون على الله من ظل امرئ مسلم" . وفي مقام أخر أيضا، حظيت قضية حرمة الدماء المعصومة باهتمام كبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة في حجة الوداع، بشكل متماثل مع حرمة شهر ذي الحجة وحرمة يوم عرفة وحرمة المسجد الحرام كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم" إن دماؤكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بيتكم هذا" . عقوبة الإعدام بين حق المجتمع وحق الجاني في الحياة - عقوبة الإعدام لا إنسانية يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن عقوبة الإعدام تعتبر عقوبة لا إنسانية ويطالبون بضرورة أنسنة العقاب واحترام المواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. لا شك أن المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام أو بعضهم على الأقل يغلبون الدافع الإديلوجي على المطلب الحقوقي ويركبون هذا المطلب بغرض الطعن في المرجعية الإسلامية والغمز واللمز في بعض أحكام الدين الإسلامي باسم حقوق الإنسان بحيث ينظرون إلى "المعاقبة بالقتل بإنها من القسوة وحب الانتقام في البشر" ، وهي شبهة قديمة طرحها الفكر الإستشراقي قبل أن يتلقفها تلامذته من دعاة العلمانية وأدعياء الحداثة. لكن ثمة حجج أخرى ذات أبعاد سوسيو- نفسية يؤكد أصحابها على "أن المجرم الذي يسفك الدم يجب أن تكون عقوبته تربية لا انتقاما، وذلك يكون بما دون القتل، ويشددون النكير على من يحكم بالقتل، ويرون أن الحكومة إذا علمت الناس التراحم في العقوبات فذلك أحسن تربية لهم، ومنهم من يقول إن المجرمين لا يكونون إلا مرضى العقول فالواجب أن يوضعوا في مستشفيات الأمراض العقلية ويعالجوا فيها إلى أن يبرؤوا ." - عقوبة الإعدام ردع إستباقي وعدل اجتماعي تتأسس حجج الرافضين لإلغاء عقوبة الإعدام على مبدأين هما : العدالة والقصاص من جهة، وعلى الردع الإستباقي من جهة أخرى. إن القصاص بالعدل والمساواة هو الأصل الذي يربي الأمم والشعوب والقبائل كلها، وأن تركه بالمرة يغري الأشقياء بالجراءة على سفك الدماء." كما أن الأولوية ينبغي أن تكون للجماعة الآمنة المستقرة في الحياة إذ التخوف هو في أن يشكل التساهل آو الرحمة مع مقترفي الاعتداء الجنسي على الأطفال وقتلهم والتنكيل بهم مثلا مدخلا لمواصلة العدوان على حق الجماعة في الحياة. ج- عقوبة الإعدام والخيار الثالث والخلاصة هي أن الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام أنطلاقا من هذه الخلفية ومن هذه المرامي تكون دعوة غير مؤسسة وموجبة للمواجهة والرفض . لكن ليست كل دعوة إلى إعادة النظر في هذه العقوبة باعتبارها جزء من المنظومة الجنائية الوضعية تنطلق بالضرورة من ذات الاعتبارات الإيديولوجية، بل ثمة حيثيات جديرة بالحوار الهادئ والنقاش الفكري المثمر وإعمال النظر حول هذه القضية من وجهة نظر تنحاز إلى فقه المقاصد الشرعية المنفتحة على أفق حقوقي يلتمس العدل والعدالة في غاياتها الإنسانية وفي مقاربتها التكاملية والتي تسمو بالنفس المؤمنة فوق قدسية الكعبة المشرفة . من وجهة نظر عملية ثمة ما يدعو إلى عدم الارتهان لأحد الرأيين فقط والبحث في خيار ثالث يدمج الاعتبارات المشروعة ويرد الدواعي الإديلوجية وهو ما حاول الرأي القائل بتعليق عقوبة الإعدام أن ينهجه لكن على نحو محتجم وبحجج غير كافية. إن الخيار الثالث الذي يمكن أن يحل المشكلة ولكن في إطار المرجعية الإسلامية وبمراعاة القيم الإنسانية غير المتعارضة مع هذه المرجعية هو الذي يسعى إلى التمييز بين عقوبة الإعدام المنصوص عليها وعلى شروطها في القانون الجنائي الوضعي ويحيط تطبيقها بعدة ملابسات وبين الحكم الشرعي الوارد في أحكام الشريعة الإسلامية. وليس هنالك من مبررا لربط ما ينص عليه القانوني الجنائي الوضعي بالشريعة الإسلامية التي لا تطبق على النحو الصحيح والكامل في مجمل البلاد الإسلامية. وليس من العدل ولا من الإنصاف أن لا يتم استحضار الشريعة الإسلامية إلا في مثل هذه القضايا، لذلك ينبغي أن نقرأ آية القصاص مترافقة وجنبا إلى جنب مع آيات الرحمة والسماحة والرأفة والعفو والمغفرة ولا يمكن فهم مبدأ العدل وقيم الجلال إلا في تكاملها مع مبدأ الإحسان وقيم الجمال وهذه هي الشريعة وروح الشريعة ومقاصد الشريعة. إن إلغاء الإعدام بوصفه عقوبة جنائية يرتبها القانون الجنائي الوضعي على مجموعة من الجنايات يمكن اعتباره ضمن المساعي الحثيثة لأنسنة هذه المنظومات الجنائية ومواءمتها مع القيم النبيلة المنصوص عليها في بعض المواثيق الدولية، بينما تبقى الدعوة إلى إلغائها كحكم شرعي بدافع إديلوجي محل تشكك وموجب للإعتراض . ويبقى الرأي الذي يكتفي بمطلب التعطيل أو التعليق مدعو إلى التمييز بين الحكم الشرعي الذي يمكن أن يجري عليه نفس اجتهاد الخليفة عمر بن الحطاب رضي الله عنه في تعامله مع حد السرقة إبان المجاعة وذلك بتعليق تطبيقه. فالقول بتعطيل عقوبة أو تعليقها لا يستقيم إلا إذا ظلت قائمة ومنصوص عليها إذ التعطيل ينصب على التنفيذ وليس على الوجود القانوني لهذه العقوبة.