لقد اعتدنا دائما أن نرى النقد والمراجعة تأتي بعد الإعلان عن فشل تجربة أو مشروع ما ،سواء على المستوى الفردي ، أو على المستوى الجماعي،داخل الأحزاب أو الجمعيات المدنية بشكل عام،هذا إن وجدت النّية أصلا لذى هؤلاء ،من أجل التقويم و النقد و المراجعة ..غير أن الصحيح هو أن النقد والمراجعة الموضوعية الهادفة يشكلان ضرورة ملحة،ينبغي أن يكونا مرافقين ومسايرين لكل مشروع مجتمعي،سواء أكان سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا، لا أن يكونا نتيجة للفشل والإخفاق. إن النقد كلما كان ملازما للعمل ،كلما قللنا من إمكانية الوقوع في الخطأ ،وتجنبنا أسباب الفشل ،هذا طبعا لا ينفي أن كل ممارس معرض للخطأ في كل حين، لأن من لا يمارس لا يخطئ ،وبالتالي فالخطأ ملازم لكل ممارس، غير أن النقد يجعل تلك الممارسة مؤطرة بشكل علمي ، قائم على استلهام التجارب ،والوقوف عند سلبياتها وايجابياتها، ودراسة كل الإمكانيات والإحتمالات ،التي يمكن أن تحقق أكبر المكاسب،وبأقل الخسائر ، وفي أسرع الأوقات..وبالتالي،فما قيمة النقد إن لم يكن درسا وعبرة،يتعلم منه اللاحقون،ويستفيد منه العاملون، تَنضاف نتائجُه إلى ما راكمته التجارب الإنسانية السابقة،ليَنهَل منها كل صاحب مشروع مجتمعي. إن أهم ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات،هو قدرته عل النقد و المراجعة،لأنه هو الوحيد الذي يتعلم من أخطائه،ويستفيد من تجاربه،ويدرس الخيارات،ويقيم الواقع،ويستفيد من المعطيات،وإن لم يفعل ذلك ،لاستحال إلى حيوان لا يعي ولا يعقل،لا يتعلم ولا يستفيد، بل يسقط في ذات المسالك و المطبّات، ويساق إلى ذات المسالخ.. الشيء الذي يجعله يدور في ذات الحلقة البئيسة ،والمدار الكئيب،يجني الخسارة تلو الخسارة، ويحصد المرارة تلو المرارة، في رتابة مُميتة ، تورث اليأس و الإحباط،وتقتل الإبداع والخلق ، نتيجة الفشل والسقوط المتكرر. من أجل ذلك، يحرص أصحاب المشاريع ، من الدول والجماعات والأفراد، قبل تنزيل المشاريع،على دراسة تجارب السابقين،واستلهام الحكمة منها، وتحليل عوامل نجاحها، أو إخفاقها .لضمان تحقيق النجاح، والوصول إلى أفضل النتائج ، في أسرع وقت، وبأقل الخسائر الممكنة، ذلك لأن سُنَن النجاح واحدة، وعوامل الفشل متكررة، وآلية صناعة القرار علمٌ ودراسة. إن المراجعة الموضوعية و النقد البناء الهادف،هو منهج العقلاء المُخلصين،والعاملين الغيورين على أوطانهم وشعوبهم، الذين يجعلون مصلحة الوطن والشعب في مقدمة اهتمامهم.. هو منهج السّاعين إلى الأصلح، المُتَخيّرين للأحسن والأفضل . وهم الذين يصارحون من يَنُوبون عنهم،ويعملون باسمهم،أو بتفويض منهم ، وإلاّ كانوا خائنين للأمانة، وغير أهل للثّقة التي مَنَحَهُم إيّاها مُوَكّلوهُم، بل سيأتي يوم يَنكشف فيه تَقصيرهم ،وسوء تقديرهم، ويَظْهر عَجزُهُم، وينفضح فشلهم ، حين غَضّوا الطّرف عن مصالح النّاس،وصمّوا آذانهم عن سماع أصوات الشعب،وامتنعوا عن التقييم ، وسكتوا عن الأخطاء، ورفضوا الاستفادة من الدروس والعبر،وأبَوا إلاّ أن يركبوا رؤوسهم،مُفرطّين في دماء الأمة،ومُستهينين بتضحياتها،التي دفع الشعب ثمنها ، بينما ينعم المتورطّون والمتسببون فيها، بخيرات ومنح وعطايا، ليست من حقهم،وكأنهم ليسوا المُخطئين أو المتسبّبين في الأزمة ،بعيدين عن أية محاسبة أو مساءلة ، تقتضيها العدالة الإجتماعية ، وتتأسس عليها الديمقراطية ،التي امتطوها للوصول إلى ما وصلوا إليه . إن النقد، لا يقوم إلاّ على الصّدق والمُصارحة والشّفافية والوُضوح، لا على الكذب و التّدليس والاختلاق، ولا يُبنى على الأماني والأحلام ، ولا يقوم به أصحاب هوى، أو طلاب مصلحة ومنفعة فردية،ممن يُحرّفون الكَلِمَ عن مواضِعِه،ويُسَوّقون الأوهام للمساكين الحالمين في الغد الجميل، نتيجة الحاجة وضيق العيش،كما لا يقوم بالنقد إلا من امتلك الجرأة والشجاعة، والقوة الإقدام،فلا يصح نقد أو مراجعة دون الاعتراف بالأخطاء ،وتحمل المسؤولية فيها .. لذا، فإنه لا يقدم على المراجعة و النقد جبان ، ولا يسعى إليهما متعمد للخطأ،أو خائن عن قصد، وإنما يطلب ذلك الطّامحون إلى التصحيح، والمتطلعون إلى الأفضل،ممن لا يجدون غَضاضَة في الاعتراف بالخطأ، ولا يُرهبهم تصويبه، والعودة إلى الحقّ وجادة الصواب، بما يحقق المصلحة، ويقود إلى المنفعة.. ولو كان ثمن المحاسبة مناصبهم،وضريبة النقد مواقعهم، أو حتى إدانتهم . قد يغفر التاريخ لأصحاب المشاريع الفردية، والمصالح الشخصية، إن هم قصّروا في المراجعة والنقد، وامتنعوا عن دراسة تجاربهم، ومعرفة أسباب فشلهم وعدم نجاحهم، وخاضوا نفس التجارب من جديد، دون أي محاولةٍ لتجنب الأخطاء، والابتعاد عن المزالق، ولكن التاريخ لا يغفر لأصحاب المشاريع العامة، والأمناء على القوى والأحزاب السياسية، الذين يقودون الشعوب، ويتحكمون في مصائر الناس، وتنعكس تصرفاتهم على المجتمعات والشعوب، سلباً أو إيجاباً، بناءً على سياساتهم، ووفقاً لقراراتهم، فهذا الصنف من أصحاب المشاريع العامة لا يجوز صمتهم، ولا يغفر لهم تقصيرهم، ولا يُعفى عن مُخطئهم، ولا يكافئ مُجتهِدُهُم إن لم يُصب، بل يحاسب ويعاقب، ويُقصى ويُبعد، إذ لا مكان لأشخاصٍ فوق المسائلة، ولا لقياداتٍ منزهةٍ عن الخطأ، وبالتالي مُحصّنة من العقاب والحساب. إنها دعوةٌ صريحة وواضحة،إلى كل الأحزاب السياسية،ونخص القيادات وذوي السلطة و القرار، لمراجعة الذات، وممارسة النقد البناء، ومكاشفة الأتباع، وكشف الحسابات،في جوّ من الجدّية في النقد ، والحرص على الحق ، غير مواليةٍ لطرف، ولا ساعية لإرضاء فريق، بل مُمسِكة بالمِبْضع بكل قوة وحزم، واضعة إياه على موضع الدّاء ، غير مُبالية بالدم إن نَزف، ولا بالمريض إن تألم أو تبرّم، لأن الغاية أسمى وأهم،ومصلحة الوطن أبقى وأعظم..