بقلم : اسماعيل الحلوتي (ملحق تربوي متقاعد) على طريقة أفلام العنف المستوردة من أسواق الخردة الغربية، والتي تنعش الحركة التجارية في القاعات السينمائية بالأحياء الشعبية، اقتحم مجلس النواب يوم الأربعاء: 8 يناير 2014، ثلاثة صيادلة غرباء، تتطاير من عيونهم شرارة الغضب. قدموا خصيصا لتنفيذ "مهمة" مستعجلة، تبين فيما بعد أنها لا تكتسي طابع الاستعجال، إذ لا هي استهدفت إسعاف شخص في حالة خطر، ولا إنجاز معادلة كيميائية لصنف من الأدوية، ولا إرضاء الفضول وإشباعه في مجال الشأن العام، وإنما تكمن عجلتها في "تأديب" شخص بدا متنطعا، وهكذا جاء الرجال لكسر شوكة السيد: الحسين الوردي وزير الصحة، الذي ما إن ظهر لهم حتى انقضوا عليه وأمطروه بوابل من السباب: "كتخربق"، "ما فديكش"، "وزير آخر الزمان"، "ارحل"، ولولا الألطاف الربانية لكانت العواقب أفدح مما يمكن تصوره... إن مجلس النواب "الموقر"، لم يسبق له أن عرف في تقاليده طيلة خمسين سنة مضت من عمره، وقوع غزو مماثل وبطريقة مرتبة، وإذ نأسف لهذا الانتهاك الفظيع، الذي مس حرمة مؤسسة دستورية، من لدن أشخاص يمثلون خيرة رجال المجتمع وينتمون إلى مهنة محترمة، فإننا ندين بشدة هذا السلوك اللاأخلاقي، الذي يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا ونتساءل بحرقة: إلى أين تسير البلاد؟ والأدهى من ذلك كله، أن هؤلاء الصيادلة الذين أوصلتهم أدمغتهم "الذهبية" إلى أعلى الدرجات العلمية: "الدكتوراه في الصيدلة"، بمجرد وقوفهم أمام وضعية قانونية رأوا فيها تعارضا مع مصالحهم الذاتية، حتى ضاعت في أذهانهم معالم دولة الحق والقانون، أظلمت الدنيا في عيونهم، ضاقت صدورهم ولم يجدوا من قناة لإيصال احتجاجهم على قرار الحكومة، القاضي بحل المجلسين الجهويين لصيادلة الشمال والجنوب، عدا ذلك التدخل الأهوج، الذي لا يمكن إدراجه سوى في دائرة الانحراف والاستخفاف، هل انعدمت كل وسائل الحوار العصرية، لاعتماد أساليب "البلطجية" و"الشبيحة" سبيلا للتواصل وانتزاع المطالب؟ أين نحن من الحق في تقديم العرائض المنصوص عليه دستوريا والعمل النقابي المسؤول؟ لقد أرادوا بذلك وضدا عن الأعراف والمواثيق الدولية، إكراه "غريمهم" أثناء ممارسته مهامه الدستورية، على التراجع عن قرار حل المجلسين، اللذين تبين له أن وضعيتهما تحول دون السير الطبيعي للمجلس الوطني برمته، وبغرض تصحيح الوضع القائم، أقدم على عرض مشروع قانون للمجلس الحكومي، الذي لم يتردد بدوره في المصادقة عليه.. فلا أحد منا بمقدوره مصادرة حق هؤلاء في الاحتجاج، لو أنهم سلكوا الطرق الحضارية والسلمية، دفاعا عما يرونه مطلبا عادلا، لكنهم بفعلتهم الشنيعة تلك، لم يسيئوا فقط إلى أنفسهم أو الهيأة التي ينتمون إليها أو مجلس النواب، أو إلى وزير وحكومة منصبة من طرف جلالة الملك، بل إلى صورة بلد خلناه شكل استثناء بعد الربيع العربي، وقطع أشواطا هامة في المسار الديمقراطي.... وخلافا لمن يستخف بالقضية ولا يوليها كبير اهتمام، باعتبارها حادث مرور لن يتأخر النسيان في طي صفحته، أو أنه مجرد تصفية حسابات سياسوية ضيقة، تدير خيوطها جهات خفية تتستر على الفساد، غاظها حل المجلسين وخفض أسعار الأدوية، وتسعى جاهدة إلى تعطيل مسلسل الإصلاحات الجارية، فإننا نرفض تحت أي مبرر أن يتم تدبير الاختلافات بغير السلوك المتمدن، ومن هذا المنطلق ندعو إلى إعمال العقل، والتحلي باللياقة الأدبية في معالجة المشاكل وتحاشي المعارك الهامشية، دونما اللجوء إلى قانون الغاب، فلا يعقل أن نظل نتفرج على مقتضيات دستور يضاهي في نصوصه أهم دساتير الدول الديمقراطية المتقدمة، دون أن نستطيع تفعيله وبلورة قوانينه على مر حولين كاملين، دستور أتى بكل مقومات الإصلاح اللازمة لتفتيت العقليات المتكلسة، والقطع مع منطق التحكم وازدواجية المعايير، أمدنا بكل وسائل إحداث ثورة حقيقية للنهوض بمستوى البلاد والعباد، لضمان الحقوق والحريات، لتوفير العيش الكريم وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولرعاية مؤسسات الدولة وعلى رأسها البرلمان بغرفتيه، الذي بدل إنتاج القوانين والأحكام وامتثاله للأسس الأخلاقية في إبداء الرأي والتحاور، أفرغه البعض من حمولته الدستورية، وحوله إلى حلبة للتطاحنات وتبادل التهم، بعيدا عن دراسة ومناقشة قضايا وهموم المواطنين، ومحاولة إيجاد الحلول الناجعة لها، فانتظارات الشعب لم تعد على ما يبدو تشغل بال لا الأغلبية ولا المعارضة، وأصبحت كل جهة ترقص على إيقاعها الخاص، بالله عليكم كيف يتم الحفاظ على سمعة مؤسسة، جعل منها نائب "محترم" معرضا للكشف عن حجم بطنه من تحت لباسه بلا حياء! ناهيكم عما يطبع في أحيان كثيرة سلوك سيادة الرئيس من تشنج وعدوانية إبان ردوده، على المدرجة أسماؤهم في لائحته السوداء، من الذين يعتمدون في أسئلتهم النقد اللاذع لسياسات الحكومة، فضلا عن استفزازات وزراء آخرين من قبيل: "غادي ندردك عليكم في الجلسة.. وما فيدكمش"، ثم كيف يستقيم حال مؤسساتنا ونحن نسجل بحسرة وألم شديدين، ذلك المنظر البئيس لرئيس جلسة شفوية يصف مجلس المستشارين بالسوق، عندما طفح به الكيل وعجز عن ضبط أشغال الجلسة وسيرها: "الله يرحم باك، اكلس.. عيب.. آش بغيتوني ندير لو؟ واش نقتلو؟ .. حشومة.. راه الناس تيتفرجو فينا.. واش احنا فسوق دابا..." إن أول من ينتهك وقار مجلس النواب ويفقده هيبته، هم المنتخبون أنفسهم عبر ذاك المشهد التراجيكوميدي، الذي تنقله لنا الكاميرات "الشاعلة"، عندما نجدهم يتدافعون في حالة هستيرية مثيرة للاشمئزاز، قصد تجسيد أدوار البطولة، محاولين إيهام الناخبين في دوائرهم الانتخابية، بحسن نواياهم وصدق مشاعرهم في الدفاع عن الحقوق، استدرارا للعطف واقتناص الأصوات للمراحل القادمة، فما يجري اليوم من انفلات في البرلمان بغرفتيه، هو حصاد ما تم زرعه من بذور التسيب والفوضى، وإضافة إلى ما يتسبب لنا فيه من قلق وتوتر، يؤشر على تحولات عميقة وخطيرة، قد ترهن مستقبل مؤسسات الدولة للمزيد من التعثر، بما من شأنه المساس بمصداقيتها، ليس فقط داخليا وإنما حتى على صعيد المنتظم الدولي، لذلك نرى لزاما التعجيل بتدارك الأمر واستحضار قوة الإرادة وحسن الإدارة للعمل وفق ما يتماشى وروح العصر، بمراجعة ثقافتنا في تدبير شؤوننا العامة، طريقة عقد الاجتماعات وتسيير الجلسات، وبالخصوص في تصرفات الوزراء والنواب باعتبار البرلمان قبل أن يكون مؤسسة لصناعة القوانين، هو مؤسسة تربوية ينبغي أن تحرص على الإشعاع والتنوير، وأن تعكس صور السلوك الحضاري اللبق، الذي يرقى بالمنظومة القيمية والفكرية لكافة أفراد المجتمع... فانطلاقا من هذه السابقة المريبة، يتعين أن تنخرط مختلف فعاليات المجتمع، في مسلسل الإصلاح وحماية المؤسسات وسلامة المسؤولين، أن نرجح كفة المصلحة العليا للبلاد على المنافع الذاتية، وألا يدفع أي تباين في المواقف إلى تبرير مثل هذا التهجم الأخرق، الذي يعتبر سلوكا مرفوضا ولا يتوافق مع ما نتطلع إليه من تطور ونماء، ولن يفيد نهائيا في التأسيس لدولة الحق والقانون وتعزيز المكتسبات، علينا أن نحترم الضوابط المؤسسية والدستورية والقانونية، ونحفظ للبرلمان وقاره وأمنه وأمانه، فما حدث أفظع من أن تضمد جراحه حفنة من بيانات التنديد والاستنكار، وأعمق من أن يرد له الاعتبار تضامن نقابي أو حكومي، ولا حتى حكم قضائي، ذلك أن الاعتداء تجاوز حدود إلحاق الضرر بشخص الوزير وحده، وأن الضرورة باتت أكثر إصرارا على اجتثاث هذا الداء الخبيث من جذوره، تفاديا لانتشار العدوى بين المواطنين ...