جَاءت الأَخْبار تِباعًا مفاجئة تمامًا لما هو عليه الأمر، سَقطت هكذا من فَوق، وكسرت هدوء الخريف الذي يُدخل المدينة في جمود قاتل. بدأ العُلماء بتبشير القوم من فقراء وبسطاء آيت باعمران أولاً بأول. نبدأ بالرباط التي اجتمع فيها سفير الجابون – اليابان بمن اجتمع من الوزارة والعمالة، بأن بلده سيستثمر أموالا كثيرة في استخراج الزيوت من تاكناريت. وحتى يكون الأمر أكثر جدية نزلت مَلكة جَمال الجَّابونْ إلى آيت باعمران وألبسوا لها إسْني والمْشْبُوحْ وأَعْمَام، ووزعوا صورها على نطاق واسع، ونحن نعلم أن المهندسون الجدد في إفني قد احتفلوا للتو بملكة جمال الصبار في الصيف المنصرم. لا طريقة التعريف باكناري إلا عن طريق نشر صور ملكات الجمال. وهي رسالة من تحت الماء لكل المشككين في خطة وعبقرية عمالة افني وملكة جمال تاكناريت التي اختيرت في ظلام دامس وسرية تامة. لم تهدأ الناس على بال، لأنهم في حاجة إلى وقت لاستيعاب انتقال تاكناريت من الشْوَاري تحملها الحمير والبغال في السفوح، إلى البواخر تعبر المحيطات لتصل إلى اليابان. لتسقط قصاصة أخرى زادت الناس صدمة ودهشة، وتؤكد اكتشاف البترول في مناطق آيت باعمران… انتشر الخبر في صالونات وجلسات العامة والخاصة، واكتسح كل فضاءات التواصل والنقاش الافتراضي. المعلومة كهذه لا يمكن لها إلا أن تنتشر بسرعة فائقة، ويمزجها الناس بتعليقات مزاجية وساخرة. على أي؛ هي أخبار جاءت كلها من فوق، من الدوائر الرسمية، وكلها توحي إلى المستقبل، وفيها مطمئنات ومسكنات تجعل المتلقي ينتشي بلحظة يحلم فيها بمستقبل زاهر. مستقبل المشاريع الكبرى التي ستجعل المنطقة تعيش نهضة اقتصادية ورفاهية اجتماعية غير مسبوقة… يستغربون ويتعجبون كيف ستتحول ايت باعمران من أحْراش وجبال فقيرة إلى حقول تصدر النفط….وكيف سيتحول أشفري إلى زيوت يتهافت عليها اليابان، الأمة الأكثر ذكاء وتصنيعا في العالم. نفترض أن شابا من منطقة سيدي ايفني يتخيل أنه سيبيع كميات من زيت اكناري بملايين السنتيمات، ثم يستفيد من عائدات آبار البترول التي توجد على مقربة منزله أو دواره أو في نقطة داخل البحر غير بعيدة عن محل سكناه. لا شك؛ انه سيشعر بارتياح عميق ينسيه واقعه ومأساته اليومية ومصيره المجهول. ثم نفترض مرة أخرى؛ أن مواطنا مغربيا آخر خارج منطقة ايت باعمران، يقرأ على الصحف أو على صفحات المواقع الالكترونية، أخبار الاستثمار الياباني واكتشاف البترول بالمنطقة، أكيد انه ستتشكل لديه صورة ذهنية على آيت باعمران كأنها "إمارة خليجية." ومن يدري؟؟ كل هذه الافتراضات ممكنة، ولكنها تبقى افتراضات وصور ذهنية غير واقعية، غير ملموسة، هي وعود وزارية وحكومية في بلد متخلف، ألف فيه الشعب مثل هذه الوعود التي لا ينتظر احد تطبيقها لأنها كاذبة، ظرفية، مرحلية. كل شيء موجه للاستهلاك الإعلامي. لكن ما هو الواقع؟ كيف هو ؟ الحقيقة نسبية لكنها تنطق لتضع حدا للكذب والزور. فكيف هي إذن؛ حقيقة الواقع ؟ الحقيقة جاءت هي أيضا بسرعة ومفاجئة، جاءت من التحت لتكسر وعود الفوق. إنها فاجعة مؤلمة، محزنة وكئيبة. باغتت الجميع، كأنها تريد ايقاضنا من وحل الأحلام المزدهرة، فعلا صدمتنا لأنها بكل بساطة هي حقيقة المعيش، هي قساوة اليومي، هي بطء الزمن القاتل. رحمة الله على الشهيد المسمى قيد حياته "الحسن أحراث" وسننقش اسمه على لائحة شهداء ايت باعمران، استشهدوا في زمن المقاومة من اجل الحرية، واستشهدوا في معارك الصحراء من أجل وحدة الوطن، ويستشهدون الآن وما يزالوا من اجل الكرامة. هي قائمة مفتوحة لأن ايت باعمران لا يخشون الموت، يختارون الصفوف الأمامية من اجل التضحية. من أجل الكرامة. لا نريد العودة إلى نفس "الكاسيط" أسباب الحريك، التهميش، العزلة، الفقر… لكن ما حز في نفسي، هو الموت المزدوج للشهيد "أحراث". توفي رحمه الله، على اثر سقوطه من منحدر قوي على الحافة. ولكنه مات مرة ثانية على اثر الأحداث التي شهدتها مدينة افني يوم 6 نونير 2014. وقع ما وقع، لكن لا نريد العودة إلى الصفر، سكان افني وايت باعمران يتطلعون إلى الأفضل. الجميع يريد العيش في آمان، في حياة كريمة بدون غاز مسيل للدموع ولا مداهمات للبيوت ولا اعتقالات في السجون…. دائما ما يطرح السؤال، لماذا هذا الهروب من المنطقة ؟ حتى وان الشباب يعلمون اليوم بتفاصيل الأزمة الاقتصادية في اسبانيا مازالوا مقتنعون ومسرون على الرحيل عن بلدهم. لماذا الناس جميعا في منطقة ايت باعمران ينفرون من منطقتهم ويرددون عبارة أصبحت حقيقة راسخة " تَامازيرْتاد أُورْكيس ما يتوسْكِيرْن". والأكثر من ذلك هو العمل بشكل يومي على ترسيخ هذا التصور في الأذهان. هي فكرة بسيطة لكنها هدامة، تم دسها في عقول الشباب والتلاميذ وعموم الناس منذ عقود، عبر مخططات وتوجهات جعلت المنطقة اليوم منفتحة على المجهول. وأصبح البديل مقترن بالرحيل. حينما نناقش بعض المسؤولين المحليين في افني، نسمع كلاما يمزق دواخلنا، بدون حياء ولا خجل، يقولون أن "هادْ البْلادْ خْرجْو عْليها مَّاليها" هذه لازمة لا تريد أن تنمحي في أذهان السلطة والإدارة بجميع تلاوينها بالمنطقة ، حتى أصبح أهل المدينة والمنطقة هم أيضا يؤمنون بها، ويتأسفون ويقومون باستمرار بجلد الذات من حيت لا يدرون. هي لغة لا تتغير بالرغم من العديد من التحولات التي يعرفها المغرب مؤخرا، على جميع المستويات منذ سنة 2011، وكذلك، بالرغم من منعطفات حاسمة شهدتها منطقة ايت باعمران على الخصوص. فحين نقرأ بلاغ صادر عن عمالة إقليم افني بعد أحداث 6 نونبر، نتأمل في لغته، نستنطق منطوقه ونتعجب من مضمونه، إنه يكرس منطق اللامنطق وزمن اللامعنى. ما أسهل أن تعلق مسؤوليات الفشل على عنق الآخرين. لا تبحثوا عن القضاء على الاحتجاج في افني، لكن اجتهدوا في القضاء على مسبباته. التواصل مع الرأي العام مفيد وحكيم، لكن يجب أن يكون بلغة الوضوح واحترام ذكاء المواطنين، وليس بالتهديد وبسياسة فرِّقْ تسدْ. تزخر الثقافة الشعبية والشفهية في ايت باعمران بخطابات ولغة المرموز، وعليه نقول كفى من تَازْكْمُّوتْ، فهي لا تصلح للبشر.