رجع رئيس الحكومة إلى تقنية «إياك أعني واسمعي يا جارة»، وهذا أسلوب قديم في الحياة السياسية المغربية، يروم تمرير الرسائل إلى من يعنيهم الأمر بأقل كلفة ممكنة، وهي تقنية تسمح للمتكلم بالتعبير عن آرائه بطريقة غير مباشرة، كما تعطيه إمكانية المناورة والتلاعب بالكلمات والتأويلات للكلام المجازي الذي يخرج من فمه إذا احتاج إلى ذلك فيما بعد. تحدث بنكيران عن «الحالمين بالتحكم»، وعن بوابة المغرب التي كانت قبل سنة مفتوحة على المجهول، وعن الأشخاص الذين دخلوا إلى الجحور ,,, ولم يعودوا يظهرون أنوفهم خوفا على مصيرهم، ثم أضاف أن عهد سب المسؤولين والاتصال بهم عبر الهاتف لإعطائهم التعليمات قد انتهى. ليس المهم السؤال عمن يقصده بنكيران من وراء هذا التلميح، فالجميع يعرف، بهذا الشكل أو ذاك، من المقصود بهذا الكلام. الأهم من هذا هو الجواب عن سؤال أكبر وأخطر هو: ماذا يجري في كواليس الحكومة واتخاذ القرار حتى يخرج ثاني مسؤول في الدولة، أمام برلمان الأمة، ليقول هذا الكلام، وهو في بيت السلطة وليس في مقعد المعارضة؟ الآن اللعبة صارت شبه معروفة.. كلما أحس بنكيران بالضيق والتبرم وعدم الرضا عن علاقته بمحيط السلطة، إلا وأخرج قاموس التماسيح والعفاريت والجحور، وكلما كان الماء منسابا بينه وبين محيط السلطة إلا وتدفق المدح والإطراء وكلام «الصواب» من فمه... هذه اللعبة ليست مضمونة العواقب دائما، كما هي السياسة عموما، في بعض الأحيان تقع حوادث سير على هذا الطريق التقليدي جدا في إدارة العلاقة بين السلط، كما وقع مؤخرا عندما اضطر رئيس الحكومة إلى الاعتذار إلى الملك في بلاغ علني عن كلام خرج من فمه وأسيء فهمه أو تأويله أو استعماله، ثم انتهى بلاغ الاعتذار بالتذكير بالولاء والإخلاص للملك... هذه ليست «حالة تواصلية» خاصة أو فريدة، إنها سلوك سياسي يعبر عن «ضعف المؤسسات» في بلادنا، وعن غياب الحد الأدنى من التواصل الحديث بين السلط، وغياب الحد الأدنى من الصراحة بين أصحاب القرار، وهذا ما يدفع الجميع إلى استعمال لغة الإشارات والرموز التي لا يفهمها الجمهور، وتبقى محصورة في وسط أولي العلم بطلاسم الحياة السياسية في بلادنا. الكثيرون اعتقدوا أن مغرب ما قبل دستور 2011 سيكون مغايرا تماما لمغرب ما بعد الدستور الجديد.. هذا الدستور الذي لم يكن مجرد نص قانوني لتنظيم السلط والصلاحيات، ولا مجرد مدونة سير للبلاد، بل كان عنوان قطيعة مع الماضي، ووعدا بمستقبل جديد وثقافة سياسية جديدة، وعلاقة جديدة بين السلط، وممارسة جديدة ستضع نظامنا السياسي، الذي كان مترددا دائما إزاء مشاريع التحديث، على سكة نهائية للتحول الديمقراطي. على رئيس الحكومة أن يتخلص من «عقدة الثقة» في علاقته بالقصر، فلا يعقل أن يبحث رئيس حكومة، في جيبه أصوات الناخبين وظهير الملك بتعيينه في قلب السلطة التنفيذية، عن «المشروعية»، وعن تبديد «الشكوك»... يوم وافق الملك على دستور 2011، الذي يعطي للحزب الفائز بالمرتبة الأولى حق رئاسة الحكومة، في ذلك اليوم دفنت أعراف وتقاليد المخزن الذي يجعل «خدامه» دائما في اختبار مستمر للولاء والطاعة... الدستور الجديد ضيق، إلى حد كبير، مجال الأعراف والتقاليد غير المكتوبة، وأفسح المجال للتعاقد والاحتكام للمكتوب بعيدا عن لغة كليلة ودمنة