قُدِمتُ إلى الوزير المصطفى الرميد عندما كان وزيرا للعدل مرتين، وأحسست من الطريقة التي صافحني بها، أن الرجل يعرفني حق المعرفة وممتعض أشد الامتعاض مما كنت أكتبه عن قرارته ومواقفه في تسييره للقطاع، فهو من الطينة التي لا تستطيع أن تخفي مشاعرها وراء لباقة المنصب ومجاملات الموقف، عندما غادر لم أكتب عنه بالنقد أبدا؛ إيمانا مني بأن الجسارة هي أن تصارح المسؤول عندما يكون كسيف ديموقليس المسلط على رأسك، أما عندما لا تبقى له عليك أية سلطة، فليس من الشجاعة في شيء أن ترفس أسدا ميتا كما قال دايل كارنيجي . أعتقد أن تصريحات الوزير زوبعة في فنجان، وأعطيت أكثر من حجمها لأن الرجل لم يعد يمتلك أية سلطة للتأثير على جهاز المفروض أنه يمسك زمام نفسه، فلم تعد شؤونه تدار من السياسيين بل من القضاة ممثلين في الرئيس المنتدب للسلطة القضائية ورئيس النيابة العامة. في فرنسا يسمع القضاة مثل هذه التصريحات من مختلف الفرقاء السياسيين صباح مساء، ولم يسبق لهم أن ثاروا إلا مرة واحدة حين خرج الرئيس نيكولا ساركوزي بتوعد بمعاقبة القضاة المسؤولين – حسب تصريحه- عن التقصير في قضية ليتيسيا، حينها هب قضاة فرنسا عن بكرة أبيهم ، لأن المتوعد هنا هو رئيس المجلس الأعلى للقضاء ، ويملك سلطة الفعل . على القضاء أن يتسع صدره لتلقي كل الانتقادات عن أدائه عن حق أو حتى عن باطل، فلا توجد سلطة في الدول الديمقراطية فوق الحساب، كما أنه ليس من وظيفة القاضي أن يحمل مضرب التنس ليرد كل الكرات التي يتلقاها، خصوصا من السياسيين الذين يمتهنون الجدل والمعارك بأسلحتهم ليست متكافئة . في أكثر من عشرين سنة من الممارسة المهنية، تعلمت أن لاشيء في القاضي يخرس الألسن ويلجم الحاقدين والمتربصين إلا تشبعه باستقلاليته عن كل المؤثرات وتجرده وقوة أحكامه ومقرراته ومطابقتها للقانون ولقواعد العدالة والإنصاف التي تواضع عليها الناس في معاملاتهم .