لا أعرف دولة في العالم سواء أكانت في العصر الحديث أو في القديم تتسم بسمة التناقض في سلوكها، وصفة الازدواجية في مساراتها والتضاد في توجهاتها في قضية الدين بقدر ما أجده في المملكة العربية السعودية. فهذه الدولة التي لها وزن لا يمكن لأحد أن ينكره، على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والدينية، تتعامل بتناقض غريب وبأقنعة متعددة مع قضية الدين والطائفية وبشكل يمكن أن يثير ويطرح عشرات الأسئلة التي لم أجد شخصاً يتفضل عليّ ويمنح تساؤلاتي الموضوعية جواباً شافياً. من جهة أولى تعتبر المملكة أحدى الدول الإسلامية الكبرى التي تتسم بالتشدد الديني المتزمت والأصولية المغلقة حيث تزدهر في ارضها الوهابية التي هي حركة دينية متشددة منغلقة شكلّت الفضاء الأبستيمي للمملكة وفقاً لاصطلاحات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، ومن المملكة العربية السعودية وبتأثير الوهابية أنطلق زعماء تنظيم القاعدة التكفيري الى العالم ومنها أيضاً تصدر فتاوى التكفير والقتل كما حدث قبل عدة أشهر في بيان بحق العراقيين كتبه 38 نموذجاً ظلامياً من هذا التيار الذي يعيش خارج التاريخ والحضارة والمدنية، وعلى أراضيها تتطاير الفتاوى الغريبة بحق الإنسانية فلا يحق للمرأة السعودية قيادة السيارة! كما صدرت أخيراً من الشيخ اللحيدان الذي يتولى منصب رسمي كبير هو رئيس مجلس القضاء الأعلى حيث أفتى بجواز قتل أصحاب الفضائيات التي تنشر الفجور والفسق، بل تمول السعودية العديد من الحركات المتشددة والمتطرفة في العالم وتمارس الإقصاء والتهميش مع المواطن السعودي الذي ينتمي للطائفة الشيعية، ناهيك عن عشرات الفتاوى والأفكار الأخرى المتشددة غير العقلانية التي تُمارس من قبل هيئة رسمية تابعة للمملكة تسمى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يشهد تاريخها العديد من الصولات والجولات في مجال مضايقة الناس ومحاربتهم والتدخل في شؤونهم الشخصية بحجج مختلفة تتعلق بالحشمة المصطنعة والالتزام الديني والتقيد بالضوابط التي وضعتها الحركة الوهابية. من جهة ثانية، نرى أن الكثير من الفضائيات العربية التي ينطبق عليها صفة "نشر الفجور والفسق" تعود مُلكيتها الى شخصيات سعودية لها مكانة رسمية وكبيرة في بلادهم، وليسمح لي القارئ أن أنقل مقطع طويل للشيخ الدكتور سعد الفقيه وهو المعارض السعودي البارز حيث يقول في مقالة مهمة له: ((باستعراض سريع لهذه القنوات أو المجموعات الفضائية يتبين أنها جميعا تقريبا مملوكة للعائلة الحاكمة بما يعني أن هؤلاء الملاك معنيون شخصيا بهذه الفتوى: - مجموعة روتانا مملوكة للوليد بن طلال - مجموعة الأوربت مملوكة لأبناء عبد الله بن عبد الرحمن وهم أبناء عم الملك - مجموعة الإي آر تي المملوكة لصالح كامل لنايف بن عبد العزيز شراكة فيها - مجموعة الإم بي سي إسميا للوليد الإبراهيم وحقيقة لعبد العزيز بن فهد وسلمان بن عبد العزيز - مجموعة الإ (ل بي سي) يملك خالد بن سلطان جزءا كبيرا منها - مجموعة المستقبل ظاهريا مملوكة للحريري ومن خلف الكوليس مملوكة للملك عبد الله شخصيا )). والان... لماذا تمارس المملكة العربية السعودية هذا الدور المزدوج؟ ولماذا تشن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غارة على امرأة تُظهر قليلا من شعرها الأمامي في شوارع المملكة وتسكت عن الأجساد المنكشفة والصدور العارية التي تظهر في العديد من القنوات الفضائية التي تعود لأمراء السعودية؟ كيف تنشر المملكة التشدد الديني المتطرف البعيد عن روح الإسلام في وسائلها الإعلامية من جهة وتمارس الدور المعاكس لذلك _ عبر وسائل إعلامية أخرى _عن طريق إنشاء ودعم فضائيات معروفة بتوجهاتها التي أقل ما نقول عنها أن بينها وبين قوانين المملكة وتوجهاتها الدينية بوناً شاسعاً وفجوة لا يمكن طمرها، حيث نرى في هذه الفضائيات الرقص والغناء والحفلات وغيرها من السلوكيات التي تُعد خطاً أحمرا عند الهيئة والحركة الوهابية؟