نظمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان يوم الخميس 27 ماي 2010 ندوة تأبينية للمفكر المغربي الكبير المرحوم محمد عابد الجابري حضره جمهور نوعي من أساتذة الكلية وطلبتها والمهتمين بالشأن الفكري والثقافي، حيث كان الموعد مع تسجيل ناذر بالصوت والصورة لمحاضرة كان قد ألقاها المرحوم محمد عابد الجابري بقاعة المكتبة العامة والمحفوظات منذ أزيد من خمس وعشرين سنة تحت عنوان " التراث ومشكل المنهج"، وهي المحاضرة التي نظمها نادي 21 بتطوان ، والتي شكلت وقتها حدثا ثقافيا متميزا حضره جمهور غفير لم تسعه جنبات المكتبة بطابقيها العلوي والسفلي، فاضطر إلى متابعتها عبر مكبرات الصوت خارج جنبات المكتبة. وكما شدت المحاضرة إليها انتباه جمهور سنة 1985 ، شدت إليها انتباه جمهور سنة 2010 نظرا لأهمية الموضوع الذي طرحه المرحوم، والذي مازال موضوع حوار ونقاش بين المهتمين بالشأن الفكري في العالم العربي، ونظرا لأنها حددت بتكثيف شديد، وبأسلوب واضح وسلس، وبمنهجية محكمة معالم مشروع الجابري الفكري النهضوي. تناول المرحوم محمد عابد الجابري في محاضرته قضية المنهج في دراسة التراث حيث انطلق من مسالة منهجية، اعتبر فيها أن الموضوع هو الذي يحدد المنهج وليس العكس، وبالتالي فلا وجود لمنهج صالح لكل المواضيع، فلكل قسم من أقسام المعرفة منهجه الخاص؛ وهو ما جعله ينتقد مسألة دراسة التراث بمختلف علومه ( الفلسفة علم الكلام علم الحديث...) بمنهجية واحدة، مع العلم أن التراث يتشكل من علوم مختلفة، والمتفق عليه أن لكل علم منهجه الخاص. بعد تحديده لخصوصية الثقافة العربية التي اعتبرها ثقافة استثمار النصوص، وثقافة تتداخل فيها مجموعة من العلوم، توقف عند مفهوم التراث في القرآن الكريم الذي ورد ذكره مرة واحدة في قوله تعالى: وتأكلون التراث أكلا لما والذي يعني المال الذي يتركه الميت، كما توقف عند مفهومه اللغوي الذي يعني ما يتركه الميت من مال وحسَب، وهو نفس المفهوم تقريبا الذي تعنيه لفظة "héritage" الغربية، ليتساءل عن مصدر المفهوم الجديد للتراث الذي ينصرف إلى ما هو فكري وروحي، وليجيب بأن المفهوم جاء من حاضرنا باعتباره مفهوما نهضويا ، حيث إن النهضة لا يمكن التعامل معها إلا من خلال التراث. انتقل المرحوم الجابري إلى التمييز بين منهجين: منهج قديم وهو قائم على الصراع كما هو الحال بالنسبة لمنهج الفرق الكلامية التي تشغل الناس بمشاكل الماضي بجعلهم ينخرطون في سياسة هذا الماضي، وبالنسبة لمنهج التصنيف إلى طبقات ( طبقات الشعراء طبقات المحدثين...) حيث إن التصنيف يستلزم الصراع، معتبرا أن هذا المنهج مازال قائما في وقتنا الراهن. مناهج حديثة، ويجملها في ثلاثة هي:المنهج التاريخي، والمنهج الفيلولوجي، والمنهج الذاتوي/ الفرداني. بعد هذا التحديد يطرح الجابري السؤال الآتي: هي مناهج حديثة لمن؟ فيجيب أنها لم تحدث كشيء جديد في ثقافتنا، بل هي حديثة في ثقافة أخرى، إذ هي مناهج اقترنت بظروف عاشها الغرب الذي كان منشغلا بمحاولة جعل ماضيه ماضيا إنسانيا، بهدف جعل حاضره حاضرا إنسانيا أيضا، وهو ما جعل المستشرقين يتعاملون مع تراثنا بمناهج تعاملهم مع تراثهم، فكل المناهج إذن حسب الجابري ترتبط بالمركزية الأوروبية، وتسعى لفرض إمبريالية على التاريخ، وبالتالي فلم يقم منهج من صلب واقعنا نستطيع أن نحل به مشاكل ماضينا في طريق حل مشاكل حاضرنا. يخلص المرحوم الجابري إلى أنه لا بد من إعادة بناء تراثنا الذي يمتزج فيه الذاتي بالموضوعي، بالعمل على تفكيكه للفصل بين ماهو ذاتي وما هو موضوعي حتى نتمكن من تجاوز النظرة الوجدانية التي تحول دون التعامل العقلاني والنقدي مع التراث، مشيرا إلى أن كل منهج قد يصلح إذا ما تم تطويعه وفق ما تقتضيه طبيعة الموضوع للاستعانة به في دراسة عقلانية ونقدية لتراثنا . إن التراث قضية نهضة، لذا ينبغي تجاوز الوجدانية حتى لا يكون عنصر تفرقة بإحياء مشاكل الماضي .