* وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ وهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أَيُّهَا الرَّجُلُ ( الأعشى ) محمد العناز...هذا الشاعر الذي يحمل ريحان الحرف الشفيف، حلمه دفاتر تخطها أشعة الشمس..تتلاقى أمام بوابة إبداعه مرايا ومرافئ، وأوطان للريح والنخيل والأرخبيلات والجرح واليمام... بين يديه تبحر القصيدة حاملة استداراتها القزحية، وتتدلى خطاه من سقفها الماطر المليء بغوايات الشعر الأبهى.. اقتحمتني بدون استئذان قصيدته "عشق"، حيث رأيت الشاعر مستلقيا فوق لحاف السهاد، يتقلب فوق سرير الحيرة، تائها بين أدغال اللاإسم، أهو التعب من يغرس قوسه في أنحائه، أم شيء ما مجهول يطوق ذاكرته بالتفكير العميق، يحوله لطفل لا يصغي لغير صلوات قلب تائه بين أصابع الأرق. يقول: يُبَاغِتُنِي السُّهَادُ، يَنْفَلِتُ مِنْ بَيْنِ مَسَامِّ الْقَلْبِ.. يَتْرُكُنِي طَرِيحَ تَعَبٍ.. لاَ أَجِدُ لَهُ اسْماً. لكنه سرعان ما يتحول من بؤرة الخطاب الذاتي الذي تحضر فيه أنا المتكلم بثقلها، نحو ضمير المخاطب المليء بالهواجس، والمنفي داخل علامة الاستفهام، حيث يطل من شقوق نصه المرهق بالعشق، ليتساءل في حرقة عن عودة حبيبته في هذا المساء الذي شردت وراءه راحته. وسكب حنينه حبرا يطارد امرأة يهديها زبد الموج، وحُمَّى عمره التي أشعرته بالدوار، وهو واقف أمام عتبة عودتها..فحتى الورد ذاهل ومأخوذ بعطش الانتظار.. ! يقول: هلْ تَعُودِينَ هَذَا الْمَسَاء..؟ فَالْوَرْدُ، فِي الزُّقَاقِ الضَيِّقِ، لاَ يَحْتَمِلُ الانْتِظَارْ. ليس هذا فقط؛ فكل شيء يتنهد كما روحه المفعمة بالأنين، والتي تهفو للفتة الحبيبة الغائبة، لا يفرش لها غير وسادة حزينة في خيمة قيسية، حيث رائحة القهوة الشهية تعبق في سماء ترقب مجيئها. يقول: وَعَبَقُ هِسْبِرِيس يَهْفُو إِلَيْكِ بِخُطىً خَفِيفَةٍ.. حَتَّى لا يُحِسَّ الظِّلُ بِثِقْلِ الانْتِظَارْ. ينتقل الشاعر محمد العناز، إلى وضع خارطة رومانسية يمشي فيها عشقه عصفورا لم يعرف أبجدية الهوى إلا مع حبيبته. فهو لا يعلم بقصص العشاق الذين استباحوا صفحات التاريخ، ولا بالساحات التي تحمل أسماءهم، إذ لم يقرأ كف العشق إلا عندما أصابته سهامه، وتركت وشما عميقا بين تجاعيد قلبه الذي يرسم دروبا أسيرة لهذا الهوى. يقول: لاَ عِلْم لِي بِتَارِيخِ الأَعْلاَمِ، وَالْعُشَّاقِ، وَبِأَسْمَاءِ السَّاحَاتِ.. فَقَلْبِي،، لَمْ يَرْسُمْ غَيْرَكِ وَشْماً في الدُّوربِ الْقَدِيمَهْ. وينتقل الشاعر لوصف هذا الأثر المحفور بخنجر بين ألياف قلبه، حيث ارتوى شوقه من ماء الأحزان، وكان ممزوجا بعطر همسه الذي لم يجد أرضا تؤويه، تضرب وجه قلبه المتيم ريح الوحدة، لا سقف يحميه من رعد الحوادث كلما سكر من كأس العاشقين.. يقول: الْوَشْمُ كَانَ بِحَجْمِ الشَّوْقِ الْمَمْزُوجِ بِلَحْنِ الدُّجَى.. وَقَلْبِي الْمُتَيَّمُ بِكِ لاَ سَمَاءَ تَأْوِيهِ كُلَّمَا شَرِبْتُ مِنْ كَأْسِ الْعَاشِقِينْ. إن هذا العاشق الذي تئن حروفه الغزلية صراخا خفيا حينا، ومدويا أحيانا، يجر مأساة قلبه بصبر غريب، فهو يعترف بأنه ليس أول من ذاق مرارة الفراق، ولا أول من تناثر خريفا في أرض العشق، لكنه أول من حمل مشاعره ربيعا لحبيبته، فأضاء بشمس هواه عوالمها، ووضع قلبه فوق راحته، يسقيها منه عُنَّاب المشاعر الصادقة التي لا تورق أغصانها إلا لها، فهل تراها ستُنكر؟!! يقول: وَلَسْتُ أَوَّلَ مَنْ يَشْعُرُ بحُرْقَةِ الْفِرَاقِ.. وَلاَ أَوَّلَ التَّائِهِينَ فِي يمٍَّ بِلاَ سُفُنٍ، لَكِنِّي حَتْماً أَوَّلُ مَنْ يَحْمِلُ إِلَيْكِ إِشْرَاقَةَ الشَّمْسِ، وَقَلْباً،، لاَ يَحِنُّ إِلاَّ إِلَيْكِ.. كي تُورِقَ زُهُورُهُ بين يَدَيْكِ. لقد شَرَّحَ الشاعر محمد العناز مشاعره في هذا النص، الذي رأيت فيه رحلة لكبار العشاق، وأنا أتنقل بين سطوره الشعرية السردية، لأجد في زواياه غطاء أسود يلطم خد البياض، وكأن الشاعر في غرفة منعزلة لا يسمع فيها غير نبض العشق يتموج في ساحاته النفسية، حيث يعلو صداه حطام القلب، محاولا تحدي مصير الفراق البائس. هو وجه الآه إذن؛ من يتواتر داخل النص الشعري مفككا أجزاءه في تناسق جميل، راصدا ذبذبات لوعته المسكونة بالعذاب. إنه جمال فني يرصد تناقضات النفس في العبور نحو حقيقة تجمع فوضاه الداخلية، والتي كانت مرآة تنقلت بين زواياه رقيقة حينا، وحائرة أحيانا، بين مَدِّ الخوف من الفراق، وجَزْرِ الاستسلام له بكبرياء. وتلك هي قدرة الشاعر الجبارة في نقل القارىء من حال إلى حال، مستسلما في الأخير لهذا العشق الذابح الذي قدم صباحاته قربانا لهذه الحبيبة الراحلة. وأختم بقول الشاعر(كثير عزة) لا يَعْرِفُ الحُزْنَ إِلاَّ كُلُّ مَنْ عَشِقَا وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ إِنِّي عَاشِقٌ صَدَقَا لِلْعَاشِقِينَ نُحُولٌ يُعْرَفُونَ بِهِ مِنْ طُولِ مَا حَالَفُوا الأَحْزَانَ والأَرَقَا *شاعرة وكاتبة