الصورة هناك باهتة قطط تقتات من رحم الأزبال, وعلى مقربة منها حشر الناس بوجوه شاحبة ، وعيون ترسل نظرات البؤس والشقاء منهم التلاميذ والطلبة ، ومنهم العاملين من النساء والرجال والأطفال، وحتى العجزة. ينتظرون الحافلة التابعة لشركة أوطاسا منذ ساعات بلهف وقلق وغضب، لأن ساعة الالتحاق بالمؤسسات التعليمية والشركات مضت. وبعد الإنتظار الطويل المرير، أطلت تبخ دخانها في وجوه المارة فسارع هؤلاء إلى بابها كالنحل، حيث الأجساد ترتفع وتتدافع، والأيادي تتشابك وتتعارك من أجل الصعود والظفر و لو بحيز ضيق للوقوف، فامتلأت الحافلة و تكدست الأجساد، فنفي الهواء، وكثر السعال والسب على لسان الركاب احتجاجا عل هذه الوضعية المزرية. وبعد حوالي ثلاثين دقيقة من مسير الحافلة نزلت برفقة بعض الطلبة, لنتجه بعد ذلك إلى أحد الأرصفة الذي يضم طابورا ضخما وطويلا من الطلبة، لنستقل حافلة أخرى للذهاب إلى الكلية. ينتظرون الحافلة وهم في غاية القلق والحيرة ، وكأنهم يقفون فوق الجمر ، نظرا لتأخرها لأكثر من ساعة، وبالتالي فوات موعد انطلاق المحاضرات الصباحية الأولى.
وبعد فوات الأوان جاءت الحافلة الرديئة المهترئة، التي أتمت المشهد من الفيلم التراجيدي الواقعي الذي تتولى إخراجه، جاءت المشؤومة التي هدرت وقتنا في الانتظار على الأرصفة نصف عمرنا، وطبعت فينا الإحباط والألم الذي نضيفه إلى باقي الآلام التي نعانيها في بلد مازال ينخره داء العطالة، والزبونية، والرشوة، والاستهتار بحقوق المواطنين. وتكدس الطلبة بداخل الحافلة، حيث الكل يعانق الآخر، لدرجة أنك لا تستطيع التحرك لا يمينا ولا يسارا وأنت واقف. ولولا الألطاف الإلهية ، وتميز الطلبة بالأخلاق العالية لاشتعلت فوضى انحلال الأخلاق بين الفتيات والفتيان، باستثناء بعض العمال من الرجال الرعاع العديمي الأخلاق الذين يتزاحمون مع الطالبات. وأثناء مسير الحافلة في اتجاه الجامعة كان يخيم على الطلبة جو من الصمت والسكون والتحديق في الفراغ رغم شدة وألم الاكتضاض، فيبدو لي أنهم يبحثون بعيونهم التائهة في الفراغ عن المستقبل في جعبة الحاضر الملتهب. كنت أمعن النظر في عيونهم كإخوة وأعزاء، فأقرأ فيها أحزانا دفينة متراكمة بداخلهم تخفيها أحيانا ابتسامة خفيفة. وبسبب هذه المعاناة التي يتجرعها الطلبة كل يوم حرم العديد منهم من اجتياز المرحلة الجامعية بنجاح لتكرارهم بعض المواد ،وحصولهم على الصفر لعدم حضورهم الامتحانات في وقتها المحدد. والطلبة الأكثر تضررا من مشكل الحافلات هم الذين في صدد إنجاز البحث الجامعي لنيل الإجازة.لأن ذلك يتطلب كثرة التنقل للبحث عن المراجع بالمكتبات وسحب الوثائق والمطبوعات من المؤسسات الإداري المعنية.
إن شركة أوطاسا الإسبانية هيمنت على قطاع النقل الحضري نوع الحافلات بطنجة عن طريق صفقة التدبير المفوض تتجدد كل عشر سنوات، وذلك منذ رحيل وتآكل شركة طنجيس "البصرية" (بوضع السكون فوق الصاد) التي نخرت القطاع حتى تشوهت المدينة.
لكن هذه الشركة الأجنبية لم ترق بالقطاع وبالمدينة، وبأحلام الساكنة المتزايدة، بل أعادتها إلى الوراء بكثير بسبب سوء تدبيرها والذي يتجلى في عدة صور سأذكرها على سبيل المثال: رداءة واهتراء الحافلات- كما سبق وأن أشرت في البداية- من خلال تصدعها من الداخل والخارج ، إضافة إلى الكراسي والنوافذ المكسورة، وتسرب الدخان مما ينعكس سلبا على صحة المواطن والسياحة. وأكرم الله أحد الأساتذة الجامعيين حين قال يوما: إن حافلات أوطاسا ما هي إلا نفايات أفرغتها اسبانيا في المغرب لأنها لم تعد في حاجة إليها، حيث لا تصلح لكل الفئات الاجتماعية كالعجزة والمعاقين" ليأتي بعد ذلك مشكل الاكتضاض بسب الحافلات و قلة الخطوط، خاصة الخطوط التي ترتبط بالحي الجامعي، حيث هناك خطين فقط : الخط 1 يربط بني مكادة بالحي الجامعي ، والخط 2 يربط المحطة الطرقية بالحي الجامعي. مما يجعل طلبة الأحياء المناطق البعيدة عن هذين الخطين يعانون طول السنة: كمنطقة العوامة، مغوغة ، حومة الشوك، حومة الحداد، المرس ، سيدي ادريس، بئر الشفاء، دار مويكنا، بن ديبان...حيث طلبة هذه الأحياء يضطرون إلى أن يستقلوا سيارة الأجرة الصغيرة أو الكبيرة، أو حافلة تقلهم من محل سكناهم إلى بني مكادة أو المحطة الطرقية ليستقلوا حافلة الحي الجامعي، بغض النظر عن المشكل المادي. ومن صور سوء تدبير القطاع أيضا عدم مراعاة الشركة للظروف الاجتماعية المادية لبعض المواطنين كالعجزة والمعاقين الذين لا يملكون درهما واحدا.
والمشكل الآخر أيضا عدم احترافية السائقين وخير دليل على ذلك كثرة الحوادث اليومية التي أصبحت طنجة تستيقظ على إيقاعها كل يوم.