ربما تكون حرية الصحافة والوصول إلى مصدر المعلومة من الأمور المقدسة في نظر الكثيرين، لكن خصوصيات الناس وحرمتهم وكذلك مشاعرهم أكثر قداسة وأجل بالاحترام، وحرمة الإنسان ملازمة له في حياته وبعد مماته، مما يجعل الكثير من الممارسات التي تمس شخصه كالصحافة أمام حدود كثيرة كلما تعلق الأمر بتلك الخصوصيات أو المشاعر، ولإدراك هذه الحقيقة يكفي أن نتأمل مضمون العقد الذي جمع بين أشهر نجمات الإغراء في بريطانيا سابقا وهي "جان جوداي" وبين صحيفة واسعة الانتشار ، حيث تعاقدت هذه الأخيرة مع الفنانة التي يئست من حياتها بسبب مرض عضال على نشر صور احتضارها مقابل مبلغ مالي طائل يكون من نصيب طفليها بعد موتها. هكذا إذن تتبين لنا القيمة العليا التي تمنحها المنظومات القانونية والأخلاقية في بعض البلدان للإنسان، بعكس ما هو سائد عندنا في وسائل إعلامنا بالتحديد، فجثة الإنسان يمكن أن تتحول إلى وسيلة لتحقيق الربح التجاري عن طريق ثمن نسخة جريدة منشور فيها صورة الجثة إلى جانب عائدات الإشهار، هذا فقط فضلا عن الاعتداء على مشاعر المواطنين عن سبق إصرار وترصد من خلال نشر تلك الصورة. ولا شك أن أوضح مثال على هذا الكلام ما لوحظ مباشرة بعد حادثة طنجة البالية المأساوية الشهر الماضي، من تهافت مجموعة من الصحف الجهوية بطنجة على نشر صور يقشعر لها البدن لقتلى الحادث، وكأن تلك الصور تشكل وحدها سبقا صحفيا لا يجب تفويته بشتى الوسائل، بما فيها طبعا السرقة الموصوفة من طرف بعض هذه الجرائد للبعض الآخر بواسطة وسائل عدة من بينها الماسح الضوئي. في حقيقة الأمر إن هذا الأسلوب في تغطية الحادث المروع الذي عرفته طنجة مؤخرا يندرج في سياق توجه إعلامي منحط تنهجه مجموعة من الجرائد الجهوية بالمدينة، فهي ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تستغل هذه الجرائد مشاهد الجثث والأشلاء، وإظهارها على أنها سبق صحفي مهم يستحق أن يطلع عليه الرأي العام، مع أن الكبير والصغير يعلم أن الهاجس المادي هو الذي يتحكم في خط هذه الصحف، فجرائم الحوادث و القتل والاغتصاب تشكل كل أسبوع مادة رئيسية لجل صحف طنجة، في استغلال مفضوح لسذاجة القراء وسطحية اهتماماتهم، وانشغالهم عن القضايا المهمة التي تهم المدينة، والتي تغيب بشكل شبه كلي عن صفحات هذه الجرائد. فالمفروض أن دور الصحافة هو تنوير الرأي العام وتشكيل سلطة إعلامية حقيقة في مجال تدبير الشأن العام كاقتراح حلول ملائمة لمعضلة حوادث السير مثلا، أما استبلاد الناس وامتصاص جيوبهم مقابل صفحات الجثث والأشلاء والفضائح فهو من الزبد الذي يذهب جفاء في أفق أن يطفو على السطح ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. عودة إلى موضوع صور قتلى حادثة طنجة البالية، فنقول إنه قد تكون هذه الصور البشعة ضرورية بالنسبة للمصالح الأمنية التي تقوم بالتحقيق، ولكنها حتما ليست ضرورية للقارئ، فهو أي القارئ العام العادي لا يستفيد من مشاهدة أو قراءة بعض التفاصيل الفظيعة أي شيء ، بل إن هذه التفاصيل وطريقة نشرها على النحو الذي رأينا قد يتسبب في مزيد من الألم والحزن للكثيرين بما فيهم أسر القتلى وعائلاتهم، ومن حقهم أن يطالبوا بعدم نشرها. وعلى الرغم من أنه ليس هناك قانون يمنع مثل هذا النوع من التناول، وقد لا تكون هناك عقوبة، وقد يقول قائل إن لم يريدوا ذالك فليس عليهم أن يقرؤوا هذه الصحف. ولكن نجد أن هذا الأسلوب في التغطية التشريحية للحوادث المؤلمة مناف للأخلاق الصحفية، ويعتبر هذا النوع من الجرم الذي يرتكب في حق الصحافة أكثر من الجرم الذي يقع تحت طائلة القانون. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هو لماذا تصر الكثير من هذه الصحف على مراكمة مشاهد بشعة في أذهان القراء ويؤثر سلبا على وجدانهم. من ناحية المهنية فإن هذه التفاصيل ليست خبرا، فالخبر يتلخص في استعراض وقائع الحادث والتحري حول أسبابه، أما باقي التفاصيل فهي مجرد إضافات لا طائل منها إلا الطموح نحو الرفع من عدد مبيعات النسخ. فيما يشبه الختام، إن أمثال هؤلاء الصحافيين مطالبون بملائمة ثوبهم الصحفي مع طبيعة عملهم التي هي في الواقع تجارة ليس إلا، فعليهم أن يعملوا على تغيير خط تحرير صحفهم في اتجاه ما يهم الشأن العام والمساهمة في تنوير الرأي العام، وليس المساهمة في نشر البلادة والسطحية بين المواطنين، وإلا فإننا سنضطر لاستعمال مصطلح الصحافة كاعتبار لواقع الحال فقط، لأن هذا النوع السائد عندنا في طنجة يستحق عن جدارة لقب صحافة الجثث والأشلاء. [email protected]