"الفنّ والصّحافة وصولا إلى الأدب.. وهيمنة المعايير التجاريّة على أخلاقيّات المهنة" منذ أسابيع طويلة وروحي تُقاوم براثن الاختناق، أشعر أنّ كلّ حاسّة من حواسّي تترصّدها مؤامرة خطيرة، عنوانها صور العنف والجريمة التي تُسرف وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء في الترويج لها والإعلان عنها عن سوء أو حسن نيّة. اختار قلمي مواجهة هذا السيل الترويجي الكاسح لتصاعد معدّلات عرض الجريمة بالصّمت المؤقّت على رجاء أن تستعيد آمالنا شبابها وشعورها القديم بالأمان، وَزَغرَدَت روحي فرحًا مع إطلالة شهر رمضان الذي مازلت أعتبره – هو والمطر- من الأشياء القليلة التي لم تضع عليها بصمة العولمة الأمريكيّة علامتها التّجاريّة المسجّلة. كنت – ومازلت- أطمع في أن تطهّر روحانيّات هذا الشّهر أعماقي كمواطنة عربيّة من رواسب الرّعب التي أتقَنَت وسائل الإعلام غرسها في لا شعوري على امتداد العام الفائت، لذا قاطعت الصّحف، وأصدرت أمرًا لموجات سمعي وبصري بعدم إعطاء موجات استقبالها جواز مرور لغير البرامج الدّينيّة والمسلسلات الكوميديّة فقط. قبل أن أصدم بمشاهد تنمّ عن فكرة العنف والجريمة حتّى بين حلقات بعض تلك المسلسلات!!.. لن أحاول التأكيد على صحّة رأيي هنا.. لكن اسمحوا لي أن أدلي بوجهة نظري الشخصيّة وأقول: لزمن طويل مضى كان الأدب والإذاعة والسينما والتلفاز بمثابة واحة روحيّة افتراضيّة للإنسان الحزين المطحون. وكان كبار المبدعين من أدباء وفنّانين وحتّى إعلاميين يُحاربون اليأس والعنف والجهل والفساد والجريمة بالكلمة الجميلة، والفنّ الأصيل المفعم بصور الحبّ والأمل والتّفاؤل، وتحليل المشاكل الاجتماعيّة في محاولة لعلاجها والوصول بالمجتمع إلى برّ الأمان الأسريّ والاجتماعيّ المنشود. للأدب والفنّ والإعلام بجميع أشكاله رسالة كبيرة لا يجوز أن تهيمن على قدسيّتها النّوازع المادية الاستهلاكيّة التي تشجّع الإفراط في عرض صور الفساد والانحلال والجريمة. لن أطرح قضيّة تأثّر المتلقّي، لا سيّما ذي التّعليم المتواضع، بما يراه أو يسمعه عبر إحدى تلك الوسائل السمعبصريّة شعوريًا أو لا شعوريًا ورأي علم النّفس بهذا الصّدد كي لا نخوض في جدال سبقنا إليه سوانا مؤخّرًا على أكثر من صعيد دون جدوى، ولستُ أنكر أننا نعيش على أرض واقع لا يخلو من العنف أو الجريمة أو فساد الأخلاق بجميع أشكاله، لكنني ضدّ هذا الإفراط الصّريح في تقديم تفاصيل ذاك العنف والإجرام والفساد أمام من هبّ ودبّ من المتلقّين، على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم العلميّة والاجتماعيّة، دون إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل وانتصار العدالة كما يجب لها أن تنتصر في كلّ مرّة لردع تلك الكوارث. بل ويبدو لي أحيانًا أنّ بعض تلك المشاهد المؤذية تُحشر حشرًا في سياق النّص بتهويل أو حتّى تأنيق يغازل غريزة العدوانيّة في النّفس البشريّة دون مبرّرات حقيقيّة لإضافتها!!.. وكم أتمنّى لو تصدر قوانين دوليّة تشمل الوطن العربيّة محرّمة هذا الإفراط في تناول العنف وعرضه بكلّ تلك السّهولة ودون أدنى ضوابط فنيّة أو حتّى أخلاقيّة. أخيرًا.. أخاطب غريزة عشق المال في ذوات مموّلي تلك الأعمال وأقول: تذكّروا جيّدًا.. ألم تكن الأعمال التي حققت أعلى نسبة شراء ومشاهدة هي تلك الأعمال التّي تتحدّث عن الحبّ وعن مشاكل الحياة الأسريّة اليوميّة البسيطة في قوالب كوميديّة يسيرة الهضم؟؟.. لن أذكر عناوين بعينها هنا رغم أنّ عناوين تلك الأعمال تفصح عن نفسها في كلّ ذاكرة وعلى كلّ لسان. أمّا الصّحافة الصّفراء التي تبالغ في عرض الجريمة فلن أبالغ أنا في التحدّث عنها، لأنني أتنبَأ لسلوكها أن يعاقب نفسه بنفسه، لتحقق أرفع الخسائر وتقفل أبوابها – بمشيئة الله- قبل أن تتمّ رسالتها في تدنيس قدسيّة رسالة الإعلام. [email protected]