بالأمس أوردت الصحف انفلات 16 ثوراً من "حظيرتها" نحو الشوارع مسبّبةً الهلع والفوضى، حتى تمّ اصطيادها واقتيادُها بعد قتْل اثنيْن منها! مرّتْ ليلةُ القدر، والمفروض من كلّ واعٍ أن "يُقدِّر" لنفسه برنامجاً "ضابطاً" لسنته القادمة يُصلح بها فاسد حاله وسيّء طباعِه.. ويطوّر ذاته، إلاّ أنّ أكثرنا يتبرّم إذا طُولب: "ضعْ لك برنامجًا تسير عليه"، مُعترضاً: "لمَ لا تتركون الأمور عفويةً، لماذا دائمًا نحتاج ضبطاً ومسارات كأننا حيوانات؟"، إنّهم معذورون لأنّ البشر بطبيعتهم يحبّون العفوية والراحة.. والحرّية. ولكن أليست الحياة كلّها ضوابط، فأشرف مفهوم وهو "العقل" (مِن كلمة "عَقَلَ" أيْ ربَطَ) هو مفهوم ضبْط ولجْم، "القضاء" و"القدر" مفهوما ضبط وتحديد، يُوحيان أنّ الكون لم يُترك سدىً وعبثا، "القوانين" هي مفهوم ضبط، فلولاها لفسدت السماوات والأرض والبيئة والدول والمجتمعات، ولانفلت كلّ شيء على كلّ شيء كثيراننا الهائجة، "لا الشمسُ ينبغي لها أن تُدرك القمرَ، ولا الليلُ سابقُ النهارِ، وكلٌّ في فلكٍ يسبحون"، "الحياةُ" كلّها ضبطٌ دقيقٌ وإيقاعٌ موزونٌ مِن ذرّتها لمجرّتها، "شفرتُها" (الجينوم) نظام، "اللغة" نظام، "الفكرُ المنطقيّ" نظام، "الزمنُ" قيدُ نظام، لا عبث وخلَل وانفلات في شيء، "الهواء"، "الماء"، "الغذاء"، تركيب "الدواء"، "الهندسة"، "البناء"، الطبخ، الرسم، الكتابة.. كلّها ضبط ومقادير محدّدة. فالذي يحتاج ضبطاً ليس الحيوانات السائبة بل الإنسان (وهو يقوم بضبْط حيوانَه المستأنَس)، الحيوانات ليس فيها إلا برمجة واحدة هي "الغريزة".. أي فطرتها البيولوجية، الإنسانُ يختزن صراعاً بين برمجتيْن: برمجة فطرتِه (خِلْقتِه) السفلى البشرية (الغريزة).. وبرمجةِ فِطرته العليا الإنسانية (صبغة الله)، برمجة تدفع لجعله يتصرّف كالحيوان الذي هو أرقى كائنات مملكتها.. يأكل ويشرب وينكح وفق الغريزة والشهوة (وهو ما عُرف بالتراث بشريعة عشتار)، وبرمجة أحدث اكتسبها مِن أثر الروح الربّاني وانعكستْ على "العقل" اللاجم.. تدفعه لاختيار ضبط غرائزه والسموّ عليها.. للانتقال بعزمِه عبر جسر الإرادة من حضيض حيوانيته/بشريّته إلى سموّ إنسانيّته/إلهيّته.. (وهو ما عُرف بتراثنا العربيّ بشريعة الله "إيل"، وإليها عُزيتْ أسماء ملائكة التدبير "جبرائيل، ميكائيل، عزرائيل، إسرافيل، وأسماء الأنبياء: إسماعيل، حزقيل، دانيال..الخ). ولأنّ "الحياة" ضبطٌ.. "فالدين" -كونه رسالةَ حياة- كلّه ضبطٌ منطقيّ، لحفز الإرادة تجاه "الاستقامة"، فيسود الإنسان على نفسه، ويُهيمن على اشتغالاته ووقفاته (قلْ إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله)، أفعالُه وتروكاتُه عن عزيمة ونيّة فكر، مدخلُه نورٌ ومخرجُه نور، لذلك "فالشيطانُ" -كبرنامج عبثٍ عالميّ- همُّه إخسارُ الإنسانِ نفسَه وإحالته لبشريّته الطينيّة؛ يقول له بالدعايات: لا عليك، افعلْ ما تشاء.. اسرحْ وامرحْ.. تملّكْ وعربدْ.. انفلت ولا تتقيّد بشيء (Loose your self)، و"الرحمن" -كبرنامج هادفٍ واعٍ- يهدف لرفعه "بتقييد" غرائزه وشهواتِه أن تجرّه لقاعها وتسحبه بأغلالها.. لماذا ينكّد علينا "الدينُ" لنقوم لصلاة الفجر ولواجباتنا الإنسانية ونحن مرتاحون بالنوم؟! لأنّ النوم لا يجعل أحدنا إنسانًا بل التضحية بالنوم تفعل، لأنّ اللاإرادة لا تُنيلنا أحقّية الاستخلاف على قمّة الكائنات السفليّة، وحده المَلِكُ الصالح الذي يقومُ ليسهرَ على رعيّته وهم نيام. يُنكّد راحتنا حتى في اللقمة: "قلْ بسمِ الله قبلها"، "قلْ الحمد لله بعدها"، "فكّر بجارِك، وبالجياع المحرومين وأنت تأكل، لتعرف حقّ النّعمة"! ما هذا القرَف والنكَد والتدخّل بخصوصيّاتنا لتنغيص مُتعتنا؟! بمثل هذا "اللامنطق" جُوبِه شعيبٌ النبيّ "أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ؟" أوامرٌ.. ونواهٍ.. ضدّ حرّياتنا أنْ نفعل بأنفسنا وبأموالنا ما نشاء! بل يُبالِغْ الدين متحكّماً: "توقّفْ قبلَ الشبَع، قُم عن الأكل وأنت تشتهيه" (الطبّ يُوصي بهذا أيضا مؤخّرا)، ويفرض أيضاً: "صُمْ شهراً"! فهلْ هذه القيود صيغت لتصنع إنساناً أم حيواناً؟! الحيوان يأكل ملء بطنه، والإنسان بالخيار أن يأكل حدّ التُخمة ويصير والحيوان سواء، ولا يدع لدماغه فسحةً للتفكير لأنّ معدتَه مشغولةٌ بهضم أطنان الأكل، لا يدع لضميره بتحسّس محرومٍ وجائعٍ ليحيا أحاسيسَ "الإنسان" تجاه بعضه.. لذلك يُورد الدين: "ليس بمسلمٍ مَنْ بات شبعان وجارُه جائع"، وحين أمر نبيُّ الدين بإخراج الصدقات للمحرومين صاح أحدهم: "واللهِ إنّها الجزية"! هكذا تزعق النفوسُ البشرية مِن واقعها السفلي، حيث الأنانية وحبّ الارتياح وكراهة الضبط، بخلاف ما تدعو إليه صبغتُنا العليا من تضحيةٍ للآخرين وتحفيز إرادة البذل. "الدينُ" منهج تطبيقي "ضابط" لتعزيز صبغتنا العليا، وتفتيق وظائف الروح.. بتقزيم دوْرِ النفس (الهلوعة) واستيلاء قراراتِها اللاواعية تجاه الانفلات. فهل انحدر عالميّاً أغلبُ نماذج إنساننا (حتّى المتديّن) من "إنسانيّته" نحو حضيض "بشريّته" حين فضّلوا أنفسَهم على غيرهم.. واستأثروا بعقائد اختصاصِهم بالهدى والحُكْم والجنّة؟! حين شهروا ألوية كره الآخر وتضليله وتكفيره واستئصالِه؟! حين اشتغلوا لنفسهم ولمذهبهم ولطائفتهم ولفئتهم بدل الاشتغال هدىً للناس ورحمةً للعالمين؟! حتّى صارت السمةُ التاريخيّة المزريةُ: "ولنْ تَرضى عنك اليهودُ ولا النصارى حتى تتّبع ملّتَهم" قاعدةً وعقيدةً بدخائل الكلّ، فالكلّ "لن يرضى" عن غيره المختلف.. ولا يُفسحون مجالا لتقبّله.. حتى يتّبع كلّ تفاصيل ملّتهم وطريقتهم ومرسوماتِهم، في ممارسةٍ مستترة مستمرّة للإكراه الديني. رمضانُ كلّه "برنامج ضبط" لتوليد ما يُعرف "بالنيّة" أيْ بالقرار الواعي الإرادي نحو هدف السيطرة على النفس.. وغرائز جوعها وجنسها وغضبها طوعاً، الحجّ هو الآخر "برنامج انضباط" لتقوية الإرادة تجاه التضحية بالراحة، وكلّه قوانين ضبط: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال.. ولا قتل حيوان.. ولا بهرجة لباس، ولهذا يذبح فيه الحاجّ أُضحيةً بدليّةً.. كرمزٍ لنحرِ حيوانيته واستيلاد إنسانيته.. التي تتناغم ببياضٍ وسلامٍ مع الإنسان الآخر من بني جنسها أيًّا كانت لغته وعرقه ولونه. فالذين يؤصّلون التمتّع.. والتملّك.. والترفّه.. والتصرّف بلا ضوابط، ولو أفسدوا أنفسهم وأهلكوا غيرهم وبيئتهم، بلا رقابةِ "دين" أيّا كان الدين، ولا قيود عقليّة وكوابح اجتماعية، مؤصّلين للعبثيّة و"يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ"، ستعاقبهم الأقدار الكونيّة وتُهينهم بأغلالٍ أغلظ وقيودٍ أثقل.. لأنّهم رفضوا اختياريّاً كرامةَ القيود المنطقيّة الإنسانيّة الواعية.. حين انفلتوا.. كثيران الشوارع.