صحيح أنه لكل موسم فضائحه، ولكل فضيحة موسم خاص بها، وأنه ما أن يهل موسم من المواسم حتى تهل الفضائح المرافقة له. لقد أصبحت فضائح مواسم الصيف و مثلها في مواسم الأمطار والسيول، غير مفاجئة لنا ولا غريبة علينا لتعودنا عليها. إلا أن الفضيحة هذه المرة جاءت مختلفةً وغريبة كتصريحات عمدة فاس حميد شباط، وكأنها من إنتاج خيال شاطح، أو من إبداع مستهتر مع أنها حقيقة وواقع، شهدنا أهوال بعضها، وسمعنا عن تفاصيل بعضها الآخر و اطلعنا عليها كغيرنا من المتابعين. فقد انتشر بين الناس في هذا الصيف خبر مفاده أن رجلا اعتدى على عرض حمار -أي اغتصبه- ما أثار موجة من الاشمئزاز والاستهجان وعاصفة من السخرية والتندر، اجتاحت المجالس والمقاهي و البيوتات. شخصياً ضحكت حتى الثمالة عند سماعي بالخبر، لكني استأت من مقاضاة الرجل وإدانته وحبسه وتغريمه أكثر من استيائي مما أقدم عليه! ولو كنت رجل قانون لدافعت عن هذا الرجل والحمار وبالمجان، ولن يكون في ذلك دعوة لمعاشرة الحمير، كما يمكن أن يتبادر إلى بعض النفوس الضعيفة، والأذهان المتخلفة التي تجهل أن العلاقة بين الإنسان والحمار هي علاقة وطيدة ترجع إلى عصور بعيدة جدا، يُرجعها بعض الحمَارة – أهل الاختصاص في علم الحمير وتاريخها- إلى عصر المشايعة البدائية أو إنتقال الإنسان من الصيد إلى التوطن في مجتمعات صغيرة، وتروي لنا كتب التاريخ الكثير من الحوادث المشتركة التي تجسد هذه العلاقة الإنساحيوانية عامة، و الإنساحمارية خاصة؛ و أن مثل هذا الحدث الذي استغربناه واستنكرناه، كان شائعا في القبائل و المجتمعات البدائية القديمة ولدى الحضارات الراقية (كاليونان والرومان والفرس) والدليل كثرة محاكمات الحيوانات عندا.. و أنه في الديانات السماوية "أسفر" اليهود مثلا تسمح بمحاكمة الحيوانات ومعاقبتها في حالتين (الأولى) إذا تسببت بموت الإنسان (والثانية) في حال وجود اتصال جنسي معها. وفي تعاليم المسيحية -المقتبسة من اليهودية- يُحكم بالإعدام على البهيمة التي تقتل الإنسان أو يتم الاتصال بها جسدياً .. أما في الإسلام فيرى فقهاء الشافعية ضرورة قتل البهيمة التي قربها إنسان بدون حرق أو ذبح شرعي، في حين لا يرى فقهاء المالكية والحنفية ضرورة اتخاذ أي إجراء لانتفاء المسؤولية.. أما القانون الأوروبي فيحفل بالأمثلة على تعامله مع مثل هذه القضايا حيث أنه بين عامي ( 1120- 1740) مثلاً حصلت أربع وعشرون محاكمة من هذا النوع في بلجيكا واثنتان وتسعون محاكمة في فرنسا وتسع وأربعون في ألمانيا.. وفي عام 1457اختلف الفرنسيون حكومة وشعباً حول شرعية إعدام خنزيرة اقتيدت مع أبنائها إلى مقصلة ليون بتهمة قتل طفل صغير. وفي عام 1499 ألغت محكمة هامبورج دعوى قضائية ضد أحد الدببة لعدم وجود محلفين من نفس الفصيلة - كما طالب بذلك محامي المتهم وقضية الدب هذه تذكرنا بقضية مشهورة رفعت في باريس عام 1521ضد مجموعة من الفئران التي استوطنت إحدى الكنائس. وقد تطوع المحامي الشهير بارثولوميو شاساني للدفاع عنها وطالب بإلغاء المحاكمة لعدم عثوره على محلفين من نفس الفصيلة.. و في القرن الخامس عشر وقعت محاكمة بين سكان سانت جوليا ومستعمرة كبيرة للخنافس استغرقت 42 عاماً بين صد ورد وحكم واستئناف.. وقد جرت العادة أن كانت المحاكم المدنية تنظر في قضايا الحيوانات الأليفة، في حين تحاكم الكنيسة الحيوانية البرية أو الشاردة خوفاً من حلول الشيطان فيها.. ففي عام 1519 مثلاً أحرقت كنيسة بال السويسرية ديكا أحمرَ في احتفال مهيب بدعوى أن الشيطان حل في جسده وجعله يضع "بيضة" (ورفعت بذلك تقريراً إلى الفاتيكان).. وفي فيينا تمت محاكمة عجل أبيض عام 1763 لأنه ولد وعلى جبهته هلال اسود - ومعلوم حساسية النمساويين من الهلال كونه شعار الجيوش التركية المسلمة التي حاصرت فيينا وكادت تدخلها. فلو مكنني الله من علم القانون وكنت من لابسي البدلو السوداء، لاستندت في دفاعي عن هذا الرجل وحمارة معا، على النقاط التالية: 1- إن الحكم على الرجل وإدانته دون مقاضات الحمار أو التحقيق معه فيه إخلال بين بالعدالة المفترضة، خصوصاً وأن حيثيات القضية لم تأت على ما يفيد بأن الحمار كان قاصراً أو بأن الرجل قد اغتصبه، وإنما واقعه برضاه على الأرجح و لربما كان الحمار هو الذي راوده عن نفسه أو ربما تلذذ بما كان أكثر من تلذذ الرجل نفسه، فللحمار تسعة أضعاف شهوة الرجل على رأي بعض الحمَارة، فإذا كان القانون ينظر لما حدث على أنه جريمة فلا بد من معاقبة الحمار لما اقترفت يداه وعقوبته في هذه الحالة أن يقتل ويدفن (قياساً بالحد الذي طبق على بقرة عذراء - في قرية باكستانية- أغواها أحدهم فواقعها سفاحاً، ولما كشف الأمر أفتانا أحدهم بوجوب قتل البقرة ودفنها) وإذا ما حكم على الحمار بالموت صار لزاماً علينا أن نحكم على الرجل بالموت هو الآخر ولكن القانون لم يذكر شيئاً عن إعدام من يواقع حيواناً، لذا وجب إخلاء سبيل الرجل والحمار معا. 2- وسؤال آخر لم يكلف الناس أنفسهم عناء طرحه ومناقشته، وهو ما الذي دفع هذا الرجل البائس لوطئ حمار "خائس"؟ قد أصدم الكثيرين إذا ما قلت بأني لم أكن مستغرباً ألبثة مما حدث ويحدث –وهذا معروف عند العادي والبادي- خصوصاً إذا ما عُرف أن الرجل عازبا لأكثر من ثلاثين سنة، و لن يستطيع الزواج ولا حتى أن يحصل لنفسه على صديقة أو "صديق" في مجتمع يحرم كل علاقة خارج الزواج ولكنه في الوقت نفسه يعج بالمغريات التي تحرض على ممارسة الجنس، فهو عالم يعاني من أزمة خانقة من قلة الاحتشام على ما يبدو أصبحت النساء فيه لا يرتدين إلا القصير أو الخفيف وحتى المحجبات منهن تعصر قوامها الرشيق في سراويل يخال للناظر إليها بأنها خيطت على أجسادهن. وحتى إن اعتكف الرجل في بيته تحاشياً لما قد يصادفه في الشارع واكتفى بمشاهدة التلفاز فإن الفضائيات توفر له ما لم يخطر على بال إبليس ولو احتشم الرجل وقرر مشاهدة البرامج الإخبارية فلاشك أن العديد من المذيعات الفاتنات سيطلن عليه بأصاوتهن الناعمة وقدودهن الهيفاء وعيونهن الكحيلة الجميلة! ولا أخفيكم أمراً بأني في كثير من المرات أفغر فيي مشدوها أمام فتنة وجمال مذيعات الفضائيات، ولا أنتبه إلا على "نقير" زوجتي وتعليقاتها. وإذا كان القارئ الكريم يرى أن الأمر مضحك، وفي ما يسمع من الحكايات/الفضائحية المتناثرة في مجتمعنا، من التسلية ما يجعله لا يفكر بأسباب إنتشارها كنتيجة طبيعية للعوز وفقدان الأمان، فتعامل معها بحكم الندرة التي لا تؤسس لقاعد، رغم أن تواليها وتلاحقها، حلولاها إلى ظاهرة تثبت ان خللاً اجتماعياً و أخلاقياً وتربوياً قد تسلل إلى المجتمع فجعل ممارسة الجنس مع الحيوانات منتشرة بيننا حتى أصبحنا نسمع أن أحدهم أغوى ديكا قاصرا فاغتصبه فلم يحتمل المسكين وقضى ضحية شهوة ذلك الرجل، أما حوادث الماعز والبقر فأكثر من أن توجز في مقال كهذا. على العموم فإنه والحالة هذه ليس من المنطقي السكوت على تكرار هذه الفضائح، دون أن تكون حماية المواطن على رأس الأولويات حتى يتحقق ما يأمله المواطنون من الجهات الخدمية المناط بها مسؤولية الحفاظ على الأرواح والممتلكات والسلوكات. أما أن يتكرر نفس سيناريو الفضائح دون معالجته بما تستحق من الحزم والجدية، ويقتصر الإصلاح على تقديم المنحرفين للعدالة فقط، وكأننا لم نستفد من الفضائح السابقة. فهل ستكون فضيحة هذا الموسم دافعا لدراسة أسبابها ومسبباتها، أم أن الفضائح ستتكرر دون الإكثرات بدوافعها حتى يغرق الناس في بؤس نتائجها. فالكثير من الدراسات الاجتماعية تشير إلى أنه كلما زاد التشدد زادت الانحرافات الخلقية في المجتمعات..وأن القضاء على مثل هذه الظواهر المشينة والمتخلفة، لا يتأتى البتة بالتعزير، ولن ينفع معها العقاب؛ وإن كنت لست ضده، لأن الإشكالية، مرتبطة ارتباطاً تاماً بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فالأديان ومعها الدساتير لم تأتي لمعاقبة المنحرفين والتعنيف بهم إلا بعد التبشير، بل جاءت لتنظم حياتهم وترفعهم من حالات التيه إلى الإيمان، وهذا أمر يتفق عليه من كتبوا التواريخ ومارسوا الشعائر، وأيقنوا بعدالة السماء، وعظمة الخالق وما خلق(القوانين والتشريعات لم توضع إلا للأناس السيئين وليس للفضلاء، ولكن لإصلاحهم وليس لمعاقبتهم). وذلك أنه غالباً ما يتم توارث بعض السلوكيات والعادات صالحة كانت أم طالحة، كما يقول المفكر والمؤرخ البريطاني" جون ستيوارت ميل". وغني عن القول إن أولاد الجهال كثيراً ما يكبرون ليستمروا في عيش من الجهل لكون البيئة التي ينشؤون فيها لا تعينهم على تجاوز جهلهم وتخلفهم، ولا تهيئهم لعيش غيره بأن تفتح لهم أبواباً أخرى أو تريهم طرقاً جديدة، فيظلون يدورون في الدائرة نفسها التي عاش فيها آباؤهم من قبل. فمن المتوقع أن أولاد الطبقة الفقيرة الجاهلة قد لا يذهبون إلى المدارس، وإن هم ذهبوا قد لا يستمرون فيها، لأسباب كثيرة للعجز عن تغطية تكلفة احتياجات التعليم، أو لأسباب صحية لضعف المقاومة وفقر الدم بسبب سوء التغذية، أو لتعذر المواصلات أو لحاجة الأهل إلى استغلالهم في التسول، أما إن هم استمروا في الذهاب إلى المدرسة، فغالباً يكون تحصيلهم الدراسي ضعيفاً ومحدوداً، لغلبة الجهل داخل بيئتهم التي يعيشون فيها، أو لانعدام الإشراف الجيد عليهم، أو لكون المدارس التي يذهبون إليها في أحيائهم الفقيرة تغلب عليها صفة مدارس من الدرجة الثانية في مستواها المادي والأكاديمي، والنتيجة هي أن يكبروا وهم بلا تعليم، أو بتعليم هزيل لا يؤهلهم للتنافس في المجتمع واقتحام المجالات الأفضل اقتصادياً، هذا إن سلموا من الوقوع في الجريمة والانحراف مما قد يسوقهم جهلهم إلى الوقوع فيه، فيظل الجهل ينسل جهلاً. وليس التعليم وحده أساس استقامة واستقرا وتقدم المجتمعات، بل هناك العدالة الاجتماعية، فهما معاالركنان الأساسيان في التنمية والتحضر، فإذا صلحا صلح المجتمع والنظام السياسي، وإذا فسدا فسد المجتمع والنظام السياسي، وإذا ما تأملنا فى انتشار كل الظواهر السلبية، سنجد وراءها تخلف التعليم، والإستبداد السياسي ، والعلاقة بينهما وبين انتشار الظواهر الانحرافية علاقة طرديه، فكلما تراجع التعليم و العدالة، تعمقت حالة التخلف و الاستبداد. فالتعليم في ابسط معانيه يعنى التقدم والتطور، والعداله تعنى محاربة الظلم وإنتزاع الخوف ومعاملة جميع الأفراد على أسس من المساواة والحرية، ولعل ما يميز مجتمعا عن الآخر بمقاييس التقدم والرقى هو درجة تقدمها العلمي ومستوى العدالة فيها. وأذكر الطلب الذي تقدم به تشرشل رئيس وزراء بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية لوزرائه المتعلق بتقديم تقرير عن أحوال البلاد وما لحق بها من تدمير، ومتسائلا ما إذا طالت الحرب مرفقي التعليم و العدالة، وجاءت إجابة الوزيران المسؤولان بالنفي وعندها أعلن تشرشل إنتهاء جلسة مجلس الوزراء. وفي هذا دلالة على أنه بالتعليم والعدالة يمكن إعادة البناء وبشكل أقوى من قبل، فلا يمكن لإنسان أمي، وإنسان مقهور أن يحترما القوانين والقيم أو يبدعا وينتجا ويتقدما بمجتمعهما. فالتعليم أساس الثروة البشرية، وأساس لأي تنشئة سياسية واجتماعية وأخلاقية صحيحة، وعبره وحده تترسخ القيم والأخلاق ويُنبذ العنف والانحراف، وتتأكد قيم النقد الذاتي البناء، وإصلاح النفس، ويسهل القبول بالرأي ألآخر و تقبل تغيير السلوكات الشخصية والمجتمعية بأدوات سلمية دون جزر ولا عقاب. ولذا فالعلاقة وثيقة بين التنمية والتعليم وتغيير السلوك الإنساني وسيادة قيم جديدة صالحة، "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". صدق الله العظيم. لذلك ليس العقاب هو الأساس في عمليات إصلاح المجتمعات، بل المهم هو التوعية الفاعلة والحقيقية، فهي مفتاح تفكيك الظواهرة السلبية واحتوائها، وهو الذي يخلق في المجتمع روح المسؤولية لمواجهة مثل تلك الظواهر التي بدأ مجتمعنا يشهد ارتفاعاً مهولا في معدلاتها. لا شك أن التعليم هو طريق التنمية الحقة، والتي هي جوهر الأمن الاجتماعي، وأن المجتمع السليم الفاضل الطيب الأعراق، لا يتحقق بدون المواطن المتعلم القادر على الإبداع والإنتاج و إتخاذ القرارات السليمة. و لا خلاف أن غياب العدالة وسيادة القانون وتراجع التعليم قد يفتح الباب واسعا أمام كل الظواهر السلبية فى العديد من النظم السياسية والاجتماعية فى دول العالم الثالث والعربي على الأخص، فحاجتنا اليوم مزدوجه للتعليم الصالح والعدالة العادلة، حتى نحمي حميرنا من مثل هذه السلوكيات الإنساحيوانية أو الإنساحمارية... [email protected]