المكان الخاص جدا هو الريف. وهو أرض الصراع منذ القدم، صراع بين الغزاة والبدو الأجلاف. صراع بين أهل الريف وأصحاب الباب المحروق...صراع قائم على المصالح المتناقضة، ورأس الخيط في هذا الصراع أجمله الأستاذ إلياس العماري في مقولة هزلية خلال اللقاء التواصلي الذي عقده حزب الأصالة والمعاصرة مؤخرا في الحسيمة ومفادها: أن محمد الريفي كان في مدينة تازة مع جماعة من الناس عندما هاجمتهم بقرة حلوب، ففر كل الناس إلا محمد الريفي الذي أمسك البقرة من قرنيها حتى جاء صاحبها فحلبها، وهي مقبوضة بيدي محمد الريفي الرجل الشهم القوي... مثل غاية في الروعة. محمد الريفي الرجل الشجاع القوي الذي أمسك البقرة التي أخافت كل الناس، يستحق التكريم ويستحق قرني البقرة جائزة له على بطولته. أما الحليب فلصاحب البقرة والزبدة للناس الذين هربوا ثم عادوا. وهكذا تم تقسيم ثروات المغرب: الحليب "رمز الثروة" لأهل فاس والقرون "رمز الشجاعة والقوة" لأهل الريف، والجلد لأهل الصحراء "رمز الطيبوبة والكرم". وهو تقسيم غير عادل تماما، وهو الذي أنتج كل الانتكاسات التي يتخبط فيها المغرب منذ الاستقلال إلى الآن، وسيستمر التخبط ما استمر الحليب من نصيب قوم دون قوم. 1 الحافلة الحافلة من بين وسائل النقل الضرورية لتنقل المواطنين والسلع كذلك، والحافلة المقصودة تنقل ذهابا فقط. إذ لا تعود أبدا بما نقلت، ومن بين الخطوط التي تنشط فيها الحافلة. الخط الفاصل ما بين الأسود والأبيض. وهو خط حامي الوطيس، خاصة وأن الحافلة كانت نشأتها الأولى سيارة صغيرة لشخصين فقط، وهناك نكتة عند أهل الريف مفادها أن السيارة الصغيرة إن منح لها العشب فستكبر وتكبر لتتحول إلى سيارة طويلة ويطلق عليها اسم الحافلة في المنجد العربي الصغير... والعشب في الريف ليس هو العشب في مناطق أخرى من العالم. العشب الريفي له شأن عظيم وذا قيمة مضافة عالية، وإذا أكلته سيارة صغيرة فستتحول إلى حافلة كبيرة في وقت قياسي. وهذا هو حال الحافلة الريفية المتولدة عن السيارة الصغيرة. وليس العشب الريفي ذا اختصاص وحيد في تكبير أحجام العربات فقط، بل له مفعول قوي في تكبير جسم الإنسان وحجم المدينة وثروة العشاب كذلك وكل شيء يكبر بإذن العشب الريفي... أما ركاب الحافلة فهم كثر ومتعددون. فيمكن للإنسان أن يتحكم في سيارته الخاصة الصغيرة وحتى العامة "سيارة الأجرة مثلا". لأن السائق يكون على علم بمن يركب معه، ويمكن له أن يختار ركابا حسب ذوقه وإرادته، لكن السائق المغلوب على أمره غره حجم الحافلة، فتخلى عن سيارته ما أدخله في مشاكل كبيرة مع الركاب خاصة الذين يصعدون من خارج المحطة أي أصحاب "الأوطوستوب" الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من الركاب، وهم خليط من رموز الفساد والبركاكة والشمكارة واللصوص والمنبطحين وأصحاب مصالح مختلفة وممتهني القوادة السياسية... كل هؤلاء الركاب صعدوا بدون تذكرة سفر. بل هم شرذمة من المرتزقة، وقد شكلوا بقوتهم العددية عبئا كبيرا على صاحب الحافلة الذي أصبح في ورطة كبيرة رغما عن أنفه وبكيد منهم طبعا. والصراع المحتدم داخل الحافلة بين الحراكة السياسيين والسائق من جهة وبين الحراكة والركاب القانونيين من جهة أخرى وبين السائق والركاب القانونيين من جهة ثالثة على عدم شرعية الوجود الاسترزاقي داخل الحافلة قد يوقف المسيرة في الطريق، وقطعا سيخسر السائق بعض الركاب وقد خسر زعيمهم الذي كان يزودهم بالتذاكر في المحطة، وسيخسر الكثير من الركاب الآخرين ولن تصل الحافلة إلى المحطة حتى تخسر أغلب الركاب الطبيعيين، خاصة وأن الطريق تغوص بالعواصف وتمر من على معصرة تعصر اليابس والأخضر... إن أمر الحافلة أصبح عسيرا جدا بعد أن ينفر منها جميع الركاب المناضلين، ويستحوذ عليها شرذمة من المرتزقة الوصوليون الذين يشمون النعمة بخياشيمهم الغليظة، وقد وصلوا في الآونة الأخيرة إلى قيادة الحافلة بقدرة قادرة رغم انعدام رخصة السياقة لديهم، واقتراب موعد الانتخابات التي يديرها مروجو المخدرات وشبكة المافيا الدولية في مدن الشمال المغربي بصفة عامة. وهم الذين يدعمون المستشارين الجماعيين ورؤساء البلديات والبرلمانيين وكل السياسيين الطامعين في المناصب. وهو وضع مرضي في الريف إذ يعد استثناءا وحيدا في المغرب، حيث تصل أصوات الناخبين إلى أثمان خيالية بفعل أموال المخدرات... في مقابل غياب أية ممارسة سياسية نزيهة... وسيقف قلب الحافلة عن النبض بعد انتهاء الانتخابات، وانتهاء مطامع الحراكة وهواة العهر السياسي الذين سينفضون عن حافلتهم كما ينفض الذباب من حبيبات السم القاتل... لأن الكائنات الانتخابية التي تعج بها الحافلة ستذهب إلى حال سبيلها بعد انتهاء الانتخابات مباشرة وسيبقى صاحب الحافلة وحيدا يعظ على لسانه ويندب حظه التعيس مع هؤلاء المنبطحين الذين خانوا عهد الحافلة... خاصة بعد أن ينفذ الوقود النووي من خزان الحافلة. المعصرة المعصرة أو العصارة من عصر يعصر، وهو فعل يحتاج إلى فاعل ومفعول به. الفاعل معروف وهو السيد الأكبر المنتدب للدفاع عن الريف وعن مصالح الريف والمفعول به لم يتبين أمره بعد. هل هي الأرض أم الإنسان أم شيء آخر. والمعادلة واضحة جدا... يمكنكم أن تتخلوا عن شيء من عنادكم وكبريائكم وغبائكم... لكي تفعلوا شيء في أرضكم. والكرة أصبحت في ملعب الريفيين. والمدة قصيرة جدا. لأن المخزن ليس له وقت يضيعه في كلام فارغ. الرسالة واضحة جدا كلكم وراء المخزن إن أردت خيرا لمنطقتكم... ولن تنفعكم الحمامة ولا الوردة ولا الحافلة ولا الغزالة ولا النعامة ولا حتى الأسد بأنيابه الجارحة... فقيادة المعصرة بيد الريفيين ومن أراد شرب العصير فما عليه إلا بلالة المعصرة. الخطاب واضح جدا وفي كل المدن المغربية، لكن في الريف أصبح أكثر وضوحا. من أراد حليب البقرة فليتجنب إمساكها من قرنيها وليهرب مع الهاربين حتى يأتي من يمسكها... بعد ذلك لكم أن تحلبون الحليب مع الحالبين. فمسألة الحليب واضحة والأستاذ العماري وضح ذلك أكثر لمن لا يريد أن يفهم للوهلة الأولى. إلى حدود الآن أصبح الإنتاج النووي للمعصرة واضح جدا، وهو الحليب وليس العصير. والحليب المغربي لا يشربه كل الشاربين. وقد حرم منه الريف لما يناهز نصف قرن من الزمن. لأنه ولد عاق فكبر وهو معاق من كل أطرافه الحيوية... والكل يعرف ما تفعله مادة الحليب في جسم الصغير. وإن حرم منها كيف سيكون مصيره، والولد الريفي العاق المعاق أصبح اليوم أمام الأمر الواقع... إما أن يتخلى عن عقوقه ويرضع الحليب من ثدي أمه أو يستمر في عصيانه وعقوقه ويستمر في إعاقته بلا رحمة ولا شفقة. إن كل الأولاد المرضيين في المغرب اسطاعوا خدمة مناطقهم في الشرق والغرب وفي الصحراء ودكالة... وكل مناطق المغرب. لكن في الريف لم يعرفوا من أين تؤكل الكتف، فعصوا وتمردوا وكان مصيرهم المقابر الجماعية في الناضور والحسيمة والتقتيل الجماعي في امزورن وتامسينت وحرق البيوت في أيث بوعياش وأربعاء تاوريرت... وحصار دام قرابة نصف قرن من الزمن، وحكم عسكري استبدادي من قبل المخازنية والدرك والأمن الوطني والديوانة وأجهزة المخابرات بكل أطيافها. وكل هذا عقابا للريف الذي أبى أن يشارك الفاسيين مرميطة الاستقلال على حالها وبما فيها من عظام وشحم ولحم ومرق وفتات... والسؤال الذي حير كل الناس بما فيهم الريفيون أنفسهم: لماذا؟؟؟ لا تهمنا الإجابة عن هذا السؤال في هذا الموضوع بالذات. لكن ما يهما هو شأن المعصرة التي يمكن تشبيهها بالمنشورات التي كان محمد الخامس يرسلها بطائراته على مداشر وقرى الريف أيام التمرد والعصيان... أن استسلموا تسلموا وارجعوا إلى بيوتكم سالمين آمنين، فالأمر واضح جدا في هذه المعادلة بين المخزن والريف. من قبل بما جاء به المخزن فقد أسلم. كيف؟ من رضي بالمخزن فالمشاريع آتية على طريق الوحدة والمنطقة ستكون بخير، وكل البيوت المحروقة أيام العصيان ستبنى وترمم، وكل الضحايا سيعوضون جماعيا، وكل المنفيين سيعودون سالمين آمنين. أما من عصى وغرته أماني المتمردين فسيكون مصيره عسيرا وسنصلاه جهنم وبيس المصير. لكن السؤال المطروح في الوقت الراهن وعلى أهل المعصرة أن يجيبوا عليه لأنه سؤال آني هو: إلى أي حد يمكن أن يثق الريفيون فيما يقوله أهل المعصرة؟ هل هناك خير ينتظر أهل الريف أم كل شيء سينتهي عندما تنتهي المسرحية؟؟؟ وقد أجابوا عن السؤال طبعا ووعدوا بأن الحليب سيصل إلى الريف عاجلا، وقد وصل الشيء اليسير منه في الأيام الخوالي رغم أن أعداء المعصرة تنكروا لذلك وصرحوا بأن الحليب ليس من عصارة المعصرة، بل هو حليب جاء من جهة أخرى. وبرهنوا على قولهم بأن نخب الريف المتواجدة في قلب المعصرة قادرة على جلب كل الخير للريف، ويدفعها ذلك الحب والغيرة على المنطقة، فهل هذا المبرر معقول؟؟ لا يمكن الحكم على الأقوال إلا بالأفعال وما الغد ببعيد. يحدث هذا في الريف وأصحاب الحافلة يحسبون نبضات قلوبهم الواجفة. ولعابهم يسيل إلى أصوات قد يصل ثمنها في سوق النخاسة البشرية إلى 2000 درهم. ويبقى الإنسان الريفي البسيط في حيرة من أمره. هل سيركب هدوء الحافلة أم هدير الجرار؟؟؟ فكلاهما يسير على عجلات ويزيد في سرعته كلما قرب يوم الحصاد. لكن الفرق الذي بينهما يكمن في أن الحافلة لا تسير على طريق مستوية، في حين يمكن للجرار أن يسير في كل المناطق المستوية والوعرة منها. وفي انتظار الحليب ما على الريفيين إلا شد أنفاسهم قبل موعد الحشر. قلم لا زال يكتب رغم كل الضرائب