عيد الاضحى شعيرة من شعائر ديننا الحنيف ، والاضحية سنة مؤكدة فيه ، وقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين ذبحهما بيده وسمى وكبر ، وقال تعالى «ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله عليه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين» ، وقد ارتبط هذا العيد ، بالنسبة لي ، وخاصة في مرحلة طفولتي الأولى ، بمظاهر الفرح ، وبهجة استقبال الخروف والاستمتاع بمهرجان نحره ، حيث كنت وإخوتي والكثير من صبية العائلة ، نلتف جميعنا حول والدي ، رحمة الله عليه ، وهو ينحر الخروف ويقطعه ، ونتسلى بمنظر الذبح ونتسابق على الفوز بالمتانة على أساس أنها " نفاخة" . لن أنسى مشاهد الفرحة المتطايرة من الأعيننا البريئة ، ونحن ننتظر طلة والدي وهو يسحب خروفا من قرونه إلى المنزل حيث يربطه بإحدى الزوايا "بوس الدار" أي المراح ، بعد ان تطلي أمي بالحناء جبهة الكبش، الذي نلتف حوله جميعنا ، في انتظار صبيحة يوم العيد ، اللحظة الحاسمة التي يطول انتظاري حلول موعده ، المتزامن عندي أنذاك بعودة والدي ورجال الحومة من المساجد والمصليات التي يحجون إليها باكرا ، لأداء صلاة العيد ، مرتادين الجلابيب المغربي الجميلة ، والجابادور المضخة بروائح المسك الزكية ، و"البلاغي المدفونة" -ج بلغة الحداء التقليدي المغربي الجميل . كم كان يطول وقوفي وأثرابي في "راس الدرب" في انتظار لحظة عودة المصلين الى منازلهم لمباشرة طقوس نحر الأضاحي - سواء بأنفسهم أو بالاستعانة بالجزارين الذين يكثر عددهم في هذه المناسبة - التي كانت تتم في حينا الشعبي "فاس الجديد" ولازالت في الغالب الأعم فوق سطوح المنازل ، مشفوعة بصراخ الأطفال وزغاريد ربات البيوت اللائي يبدأن مباشرة بعد سلخ الذبيحة ، بعملية غسل أحشائها ، وشواء الكبد الملفوفة في الشحم ، الشهير باسم" بو لفاف " الذي يقدمنه مع كؤوس الشاي المنعنع ، الذي يطرح بعده طبق "الدوارة " أو "التقلية " أي أحشاء الخروف المطهوة بالكثير من التوابل التي تحرص الأسر المغربية على اقتناء مختلف صنوفها قبل العيد ، لاستخدامها في تحضير وجبات خاصة بالمناسبة مثل "المحمر " و"المروزية " و" القديد " شرائح اللحم المتبلة التي تجفف تحت أشعة الشمس ، فضلا عن أكلات أخرى تختلف من منطقة الى اخرى. صحيح أن تقاليد العيد تختلف عن بعضها في الكثير من الشعوب والدول العربية والإسلامية ، ويختص البعض منها بعادات وتقاليد دون غيرها ، لكن ، ومهما اختلفت تلك التقاليد والعادات الاجتماعية ، وتباينت طرق ممارستها في مناسبة هذا العيد بالذات ، فتبقى صلاة العيد ونحر الاضحية وزيارة الأقارب وصلة الرحم ، هي العامل المشترك الوحيد الذي لا خلاف فيه بين كل الدول العربية والإسلامية جميعها ، لأنها تقاليد مكتسبة من التشريعات الدينية ، كركن أساسي في تأصيل التراحم والعلاقات الاجتماعية التي حثنا عليها الدين الحنيف .. ومازلت أذكر كيف مر عليّ العيد لأول مرة في حياتي ، حيث كنت قبيل العيد - وببراءة طفولية – أُسائل أمي قبل العيد بأيام ،مرات عدة في اللحظة الوجيزة " ماما ماما ، فوقاش غيجي العيد " وأنا أحمل الحذاء الجديد الذي اشتراه والدي والثياب الزاهية التي خاطتها أمي استعدادا لارتدائهما في صبيحة العيد الذي طال انتظاره . مضت السنين وذهب معها والدي رحمة الله عليه ، كما ذهب والده ، أي جدي وغالبية الأجداد (رحمهم الله ) ومازال العيد يأتي في موعده من كل عام , وبقيت بهجة نحر الاضاحي في منزل العائلة بحضور الأسرة وتحت اشراف الوالدة - قبل رحيلها مؤجرا (رحمة الله عليها) - التي كانت تتأفف من ذبح الجزارة لأضحية العيد ، وتتحسر على " رجال زمان " الذين كانوا يفضلون نحر الأضحية بمنازلهم وبأنفسهم تطبيقا لسنة النبي إبراهيم الخليل عليه السلام، وكم كانت تلح علي الالحاح كله ، وتصر على أن اذبح خروف العيد بيدي بحجة كوني الابن البكر ، وقد كانت رحمة الله عليها ، تؤكد على أن فرحة الذبح لن تكتمل إلا إذا تمت على يد رب الأسرة ، وتحرص على ذلك كل الحرص ، وتستدل بالمثل المغربي : "اللي ما خيط كساتو ، وما ذبح شاتو ، موتو احسن من حياتو" المقولة التي ينسبها – مع الاسف-بعض العامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كحديث شريف .. لم أجرب يوما ذبح خروف ولا حتى ديك ، ما كنت أعرف "منين نبداه " كما يقال في دارحتنا المغربية ، ومع ذلك غامرت مرة تحت إلحاح والدتي ، فسميت الله وكبرت ووضعت الملح في فم الأضحية ، لا ادري لماذا ؟؟ لكني فعلت ما كان يفعله والدي !!، نحرت الخروف بمساعدة اخواني وأخواتي ، وفي زهو كبير صحت فيهم جميعا "هاذ الشي ساهل " ، علق أخي "عبدو "الأصغر : "إوا غير بلاتي ، في السليخ غادي يبان ليك لبلان " ، تكاتفت الجهود على نفخ الذبيحة وتعليقها على معلاق ، كان والدي قد ثبته في الحائط لهذه الغاية ، وفي تحدِِ سافر بدأت السلخ الذي كان في حقيقته محنة " للبوجاديين " أمثالي ، الذين لا يتقنون حرفة الجزارة ، كما هو حالي مع فن الذبح والسلخ الذي استغرق مني وقتا طويلا ، -في اجواء عامرة بسخرية الاخوة والأخوات وتنكيت بعض افراد العائلة وأصدقائي من الجيران- قارب الأربع ساعات توجتها بالاستعانة بجزار محترف ، ليتم ما بدأت ، عفوا ، ليحاول إصلاح ما افسدت . أمام هذه العادات والتقاليد الاجتماعية الراسخة وهذه الفرحة التي لا تخلو من معاناة ، ألا يجدر بنا الاعتراف بأن كثيراً من مشاكلنا الاقتصادية والصحية والبيئية ، مرتبطة في غالبيتها بعدم قدرتنا على تحوير هذه العادات الاجتماعية إلى سلوكيات صحيحة تلعب دوراً في الحد مما يمكن أن يترتب عنها من معانات ، تكمن خطورتها الصحية والبيئية والاقتصادية ، في ممارساتنا لبعض السلوكيات الخاطئة وما ينتج عليها من تلويت للبيئة بما يلقى به في الشوارع والدروب من مخلفات الذبائح خاصة مع تضاعف اعداد السكان وضيق المساكن. ألا يحتم علينا هذا الوضع وغيره ، التفكير في وسن قوانين تنظم عمليات الذبح السليم دينيا وطبيا وبيئيا ، وإقامة مذابح آلية ، توفر المزيد من التسهيلات لنحر الاضاحي ، يتجه إليها الناس بأضاحيهم صبيحة العيد تفاديا لما تسببه عملية الذبح من مخالفات قد تتسبب في مخاطر لا تحمد عقباها. ورغم اختلاف وجهات النظر حول ذبح أضحية العيد بالمنزل أو بالمذابح ؛ فقد طرأ تغيير على هذا المفهوم جعل الكثير من الناس ، الشباب على الخصوص، يفضلون نحر الأضحية بالمذابح ثم الرجوع بها إلى المنازل جاهزة للتناول بلا عناء قد يصيب النساء على وجه الخصوص بمتاعب مرهقة لا فائدة فيها. والى حلقة اخرى من ذكرياتي مع العيد الكبير