لعل أهم الخلاصات الأساسية التي أسفرت عنها كل الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها بلادنا ومنذ فشل تجربة التناوب التوافقي الأول، بما في ذلك الانتخابات الجزئية الأخيرة التي تصدر فيها كل من العدالة والتنمية والاتحاد الدستوري، وتوارت عنها أحزاب وطنية لها مشروعيتها التاريخية مثل الاتحاد الاشتراكي، هي أن ظاهرة العزوف الانتخابي شكلت ولازالت تشكل العامل الحاسم في صناعة وتحديد الخريطة السياسية في بلدنا. وآية ذلك ما يلاحظ بخصوص مساهمة هذه الظاهرة "العزوف" في صياغة المشهد السياسي الحالي والذي يمكن تشخيص معالمه من خلال استحضار ثلاثة مظاهر أو نتائج أساسية توضح العلاقة السببية بين التناوبين . المظهر الأول : ويتجلى في الولادة القيصرية لحزب الأصالة والمعاصرة من رحم الدولة، في سباق مع الزمن لمحاولة ملأ الفراغ ألسياسيي الذي خلفه الفشل الذريع لتجربة التناوب التوافقي، وسيادة الشعور بالإحباط الذي تم التعبير عنه من خلال ما سمي بالعزوف العقابي خلال كل المحطات الانتخابية التي عرفتها بلادنا وبعد الإعلان رسميا من قبل السيد اليوسفي عن استقالته من الحزب ومن العمل السياسي ، وبعد وقوف الدولة على حقيقة ساطعة مفادها أن الأحزاب جميعها أصبحت عبءا عليها ، وأنها لم تعد قادرة على إقناع مناضليها حتى، وأحرى أن تضطلع بتأطير المواطنين ، وبالتالي لايمكن لها "الدولة" أن تبقى مكتوفة الأيدي تتفرج على احتضار أحزاب مولدة للفراغ الفظيع الذي لايمكن التنبؤ بما يمكن أن يؤول إليه ، وتلكم الحجة التي استندت إليها الفعاليات ذات الماضي اليساري التي انخرطت في مشروع ترميم المشهد السياسي بكل حماس- حركة لكل الديمقراطيين في البداية ثم حزب الأصالة والمعاصرة فيما بعد- تحت ذريعة ضرورة الفعل في الواقع من أجل إحياء السياسة من خلال تدخل هندسي جديد يقوم على أنقاض تجربة التناوب الأول، لأن الطبيعة تخشى الفراغ .مما جعل الأحزاب كلها تطرح السؤال: ما العمل مع هذا الوافد الجديد الذي لم يكن في الحسبان ؟ ما العمل مع هذه القدرة الخارقة لحزب جديد تمكن من شبه اكتساح الساحة السياسية بشكل حير الأحزاب جميعها ووقفت مكتوفة الأيدي تملأ الدنيا صراخا واستنجادا من تغول حزب كاد أن يقضي على الأخضر واليابس لولا مكر التاريخ الذي أنقد ماء وجه الأحزاب بصيغة الربيع العربي وامتداده المحلي، ممثلا في حركة 20 فبراير التي عبدت الطريق أمام الأحزاب ويسرت لها إعادة توزيع الأدوار والمواقع التي يحتلونها اليوم في الأغلبية أوالمعارضة. المظهرالثاني: ويتجسد فيما يستفاد من المثل العربي "مصائب قوم عند قوم فوائد"بمعنى أن مرحلة ما بعد فشل تجربة التناوب مثلت الفرصة الذهبية لقوى الفساد التي تمكنت من التحرك في الساحة السياسية بكل حرية ودون إزعاج، لأن الأغلبية الساحقة من الهيئة الناخبة سواء منها المسجلة أو غير المسجلة في اللوائح الانتخابية وداخل المراكز الحضرية بصفة خاصة، امتنعت عن الانخراط والمشاركة وعن منح ثقتها لأي كان بخصوص تدبير الشأن العام المحلي أو الوطني. الشيء الذي أعطى عمليا الفرصة لمحترفي الانتخابات، للانتعاش باستعمال وسائلهم المتنوعة لإرضاء شريحتهم الانتخابية الجاهزة والتي يجدونها على أهبة الاستعداد لتأمين حفاظهم على البقاء والاستمرار. وهوما أكدته نسبة العود المرتفعة في المجالس المحلية والتشريعية . وأكده كذلك عدد المقاعد البرلمانية التي يحتلها رؤساء الجماعات المحلية والقروية ،وكما تفضحه الأرقام التفصيلية بخصوص الشريحة الانتخابية والنسبة الهزيلة للمشاركة في المناطق الحضرية.وفي مقابل ذلك، نسبة المشاركة المرتفعة بالمناطق القروية التي تشكل الفضاء الأرحب لقوى الفساد الانتخابي بما يضمن لهم البقاء والاستمرار بالمجالس المحلية والنيابية للمرة الثانية والثالثة ولم لا الرابعة، وهو ما سمح لما يسمى بالأعيان ذوي الانتماءات القروية التحدث باسم المناطق الحضرية وتمثيلها في المؤسسة التشريعية، بل الاضطلاع بمسؤولية التشريع والتقرير في مصير البلدعلى مستوى السكن والصحة والتعليم. المظهر الثالث : ويتجسد في انتقال أحزاب من دكة الاحتياط ظلت رهن الإشارة وعند الطلب ، انتقالها إلى موقع الصدارة، واستقواؤها بفضل استغلالها للفراغ الناجم عن العزوف العقابي الذي استعملته شريحة واسعة من الهيئة الناخبة، وبصفة خاصة الطبقة الوسطى ضد من أخلفوا الموعد وأخلوا بالالتزامات والتعاقدات مع عموم المواطنين الذين علقوا الآمال على حكومة التناوب برئاسة السيد عبد الرحمان اليوسفي الذي ظل متفائلا يردد: إن التغيير آت لاريب فيه إلى أن انتهى به الأمر وقد انضم إلى صفوف الجيش العرمرم من العازفين وإعلانه عن ذلك في رسالة موجهة للمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، يعلن فيها اعتزاله العمل السياسي واستقالته من الحزب، وهي الرسالة التي تسائل اليوم قيادة الحزب المذكور قبيل مؤتمره التاسع الذي يصفه بعض قادة الحزب بمؤتمر"التجديد والانبعات" تسائلهم من حيث مسؤوليتهم الأخلاقية فيما يجري اليوم باعتباره امتدادا لما جرى بالأمس ، وباعتباره نتيجة حتمية لتورط قيادة هذا الحزب في التهافت نحو المواقع وخلال ثلاث تجارب حكومية أعادت إنتاج نفس شروط اليأس والإحباط في إخلال كامل بالالتزامات التي تعاقدوا على ضوئها مع ما يسمى بالطبقة الوسطى التي أخلت الميدان كرها ليحتله اليوم حزبان كأخوين عدوين، أخوين لأنهما من رحم واحد من حيث النشأة والنمو، وهو ما صرح به مؤخرا القيادي في الأصالة والمعاصرة السيد العماري في برنامج تلفزي بإشارته للجامع المشترك بين الأب الروحي للعدالة والتنمية، المرحوم عبد الكريم الخطيب وبين مؤسس حزب الأصالة والمعاصرة السيد عالي الهمة . ولدا معا تحت رعاية الدولة واشتد عودهما ضمن واقع العزوف. وأصبح كل منهما يريد الاستئثار والاستحواذ بل السعي إلى نفي الآخروالإجهاز عليه مع اعتقاد كل منهما أنه الأصلح للتماهي مع الدولة، في صراع مرير بينهما حول نيل الاعتراف. صراع أحوج ما نكون من اجل فهمه إلى الاستعانة بالفيلسوف الألماني فريديريك هيغل الذي يعتبر في سياق موقفه من وجود الآخر المخالف، أن هذا الاعتراف لايمنح بل ينتزع من خلال صراع مأساوي يخاطر فيه الطرفان بحياتهما، ولكي يتحقق هذا الاعتراف لامناص لهما من استسلام أحدهما مادام الموت لا يحقق لهما ذلك الاعتراف. إذ "لا يستقيم الوعي بالذات إلا عبر الشعور بالتضاد"وللمزيد من التفصيل يمكن الرجوع ل "جدلية العبد والسيد" عند الفيلسوف هيغل من أجل فهم أعمق لهذه الآلية : آلية"التنازل أو الاستسلام في مقابل الاعتراف". على سبيل الختم: إذاكان فشل تجربة التناوب الأول بقيادة الاتحاد الاشتراكي قد أفضى إلى واقع العزوف والإحباط وخيبة الأمل مما انعكس سلبيا على مستوى المشاركة المتدنية في كل الاستحقاقات الموالية لهذه التجربة ، وكان السيد اليوسفي باعتباره كبير مهندسي هذه التجربة لم يتردد في الإعلان بكل شجاعة عن اعتزاله العمل السياسي واستقالته من الحزب المسؤول عن هذا الفشل في رسالة موجهة إلى أعضاء المكتب السياسي في هذا الشأن، فإن الحاجة ماسة اليوم لإعادة قراءة هذه الرسالة من قبل قيادة الاتحاد الاشتراكي المتنافسة على الكتابة الأولى للحزب قبيل انعقاد مؤتمره المرتقب والذي يراد له أن يكون مؤتمر "الانبعات" وأن تكون لهذه القيادة نفس شجاعة الرجل للاعتراف بمسؤوليتهم فيما يحصل اليوم ضمن مشهد سياسي عبثي بئيس، وشجاعة اتخاذ القرار الصعب الذي يقتضيه هذا الاعتراف.