يحل الموسم الصيفي بطنجة وتحل معه مآسي متعددة تلحق بساكنة المدينة، الازدحام، الغلاء، اختناق حركة المرور ، ثم الأعراس المزعجة التي أصبحت تشكل العدوى المتنقلة من حي إلى حي في ظل أجواء من البهرجة المفرطة والمنافسة المحمومة . وقد اكتست أعراس طنجة منذ زمان طابعا متميزا من حيث عدد أيام العرس، وكذلك نوعية الأنشطة المبالغ فيها، والأجواق الفنية التي تختزل مكونات الفرق الموجودة على الصعيد الوطني ، ، ثم الفضاءات التي تحتضن الأنشطة العرسية ..فانطلاقا من دور الزفاف إلى قاعات الأفراح يستمر انبعاث الأصوات المزعجة من مكبرات الصوت ومن أبوق السيارات المتحركة في اتجاهات مختلفة داخل أحياء المدينة لتنتهي عند منطقة خليج طنجة ، ثم تكر راجعة ، دون مبالاة بالشعور العام الذي يستنكر الضجيج ، ولا بالقرب من المساجد ولا براحة الجيران والمرضى والأطفال والعجزة ، فكل ما هنالك هو الفرحة العارمة التي تتجاوز كل الحدود، والتي يختلط فيها الهرج والمرج ، والعربدة، والسكر أحيانا ، ويستمر هذا المشهد القاتل من بداية الليل إلى شروق الشمس . إن مواكب الأعراس لها مسارات مختلفة، لكنها تلتقي عند محاور طرقية محددة، منها بولفار باسطور وشارع محمد الخامس، وساحة الكويت، وساحة الأمم ، وساحة الجامعة العربية ، وساحة المسيرة الخضراء، وشارع محمد السادس ، ومالباطا، وسوق البقر..، فعند هذه النقط قد يتجمع أكثر من موكب في وقت واحد، فتكثر التحركات الاستعراضية المثقلة بالضجيج القوي والمحفوفة بالأخطار، بسبب السباق الجنوني ، وامتلاء السيارات عن آخرها بالركاب بكيفية عشوائية، حيث يتم الركوب فوق أسطح السيارات، والتعلق بالحواشي والأبواب ، وكذلك التدلي بالأجساد خارج النوافذ ، وتجاوز إشارات المرور، وحرق الضوء الأحمر، والتنافس بين المرافقين من أجل الاقتراب من سيارة العروسين ،واستعمال المنبهات بشكل جماعي ، وإطلاق الصياح والزعيق والنفير، واستعمال الدراجات النارية المحدثة للضجيج المفرط ... ويستمر تسلسل المواكب طيلة الليل لتتوقف عند محطات معينة من أجل التقاط الصور التذكارية ، وغالبا ما تكون مصحوبة بالأجواق المثيرة للصخب والفوضى حيث يتم احتلال الطرقات وعرقلة حركة من طرف الشباب الراقص والهائج ، وأمام كل ذلك تظل الساكنة المتواجدة على طول هذا الخط تعاني من الإزعاج المستمر ، ونفس الأمر ينسحب على السائحين الذين يرتادون طنجة، بسبب تواجد معظم الفنادق داخل هذا المسار . والغريب هو أن هذه البدع الطنجوية ظلت تتنامى وتتعمق على مر عدة عقود إلى أن وصلت إلى الأوج أمام مرأى ومسمع من الجهات المسؤولة التي يبدو أنها لا تبالي مطلقا بهذا الأمر، بل هي تشجع عليه من خلال غض البصر ، ومنح التراخيص الخاصة بقاعات الأفراح المتمركزة وسط الأحياء الآهلة بالسكان بدلا من أن تحرص على تطبيق القانون حماية للمواطنين من الشطط والفوضى. وإذا كان هذا التقليد يدخل ضمن العادات الموروثة عن الأجانب، فإن أعراس طنجةالمتأصلة قد اكتست صبغة جديدة تطبعها المبالغة المفرطة بسبب ما تلحقه بالساكنة من أضرار مادية ومعنوية ، كما أنها تكشف عن سلوك متخلف مغرق في الأنانية المشخصة في الإسراف والبذخ الذي يرفضه الذوق السليم والعقل القويم، . فالفرح مباح وإشهار الأعراس مطلوب شرعا لكن في حدود الاعتدال عملا بالقاعدة الشرعية "لا ضرر ولا ضرار". والمؤسف أنه قد أضيف لهذه الآفة في السنوات الأخيرة تقليعة جديدة ممثلة في قاعات الأفراح الخصوصية التي يتم الترخيص لها وسط الأحياء والمجمعات الآهلة بالسكان على صعيد كل تراب المدينة ، بل هناك تمركز قوي للعديد منها في نقط متقاربة وسط أحياء يعاني سكانها العذاب المستمر بسبب الإزعاج الصادر عن هذه الأماكن التي تستقبل يوميا أفراح الأعراس التي تستعمل فيها مختلف الأجواق ، ووسائل الإثارة كالبواردية ، والعمارية ، والشهب الاصطناعية ، والمفرقعات ...مع استعمال مكبرات الصوت المثبته في كل الاتجاهات. فالأعراس في مفهومها الجديد لا يكتمل إخراجها إلا حينما تختزل التراب الوطني وكل أنواع الفنون والتقاليد المغربية ، وتقترن بكل أصناف الضجيج الذي يمتزج فيه قرع الطبول بالغيطة والدقة المراكشية ، والأجواق العصرية والمديح، والطقطوقة ،.. فإلى متى سيظل الناس يحيون أفراحهم بأنانية مفرطة وجهالة صارخة دون مبالاة بأحزان وأشجان الآخرين؟، فكم من المواطنين قد تعرضوا للإصابة بأمراض القلق والتوتر النفسي ، بل منهم من اضطر لبيع ملكه من أجل الابتعاد عن مصدر الضرر والأذى. وماذا يمكن القول بشأن السياح الذين يزورون طنجة فيحكم عليهم بأن تظل أعينهم مفتحة طول الليل بسبب الإزعاج الذي تحدثه مواكب الأعراس.؟ وتجدر الإشارة إلى تصاعد احتجاج السكان ضد ظاهرة فتح قاعات الأفراح التي يتم الترخيص لها بكيفة غير قانونية رغم اعتراض المقيمين بالجوار ، وما أكثر الشكاوي المرفوعة إلى السلطات في هذا الشأن دون أن تحرك ساكنا، بل اضطر الكثير من المواطنين إلى تنظيم وقفات احتجاجية ضد ممارسات أصحاب هذه القاعات الذين لم يعد يهمهم إلا مراكمة الأرباح وإشباع الغرائز، .. وقد شهد الأسبوع الماضي تنظيم ساكنة منطقة حي فال فلوري وحي السليماني وقفة احتجاجية بإسناد من جمعية حقوق الإنسان بطنجة ضدا على تمركز عدد من هذه القاعات وسط الحي في محيط مستشفى محمد الخامس الذي لا يسلم مرضاه من الأذى الناتج عن الإزعاج المستمر، حيث تتواجد بأحد الشواراع خمس قاعات للأفراع جد متقاربة في الموقع، مداومة على استضافة الأفراح والحفلات على طول السنة . إن من يصر على إحياء الأعراس بهذه الصيغة، يعتقد أنه يرتقي بسلوكه الحضاري الذي يستحق عليه التقدير ، في حين أنه يعبر عن سلوك مرفوض موغل في البداوة والتخلف الأعمى .. أليس من واجب المسلمين أن يرحموا إخوانهم ويبعدوا عنهم الإذاية والحرج من غير أن يحرموا أنفسهم من الفرح المباح الذي سيستحوقون عليه الأجر والثواب بدلا من أن يلحق بهم اللعنة والخسران ؟ أليس المطلوب من السلطات المحلية والمجلس الجماعي أن يتدخلا بحزم من أجل تطويق ظاهرة الأعراس المزعجة بكل تلاوينها وأشكالها ابتداء من ظاهرة المواكب، وقاعات الأفراح ، ونوعية الفرق الفنية ، وذلك بالعمل على سحب الرخص غير القانونية، ثم تقنين هذا النوع من النشاط بشكل يضمن تحقيق التوازن ، ويلبي حاجيات المواطنين دون إلحاق الضرر بالغير. فالمطلوب ، تحديد سقف زمني للأنشطة ينتهي عند الثامنة ليلا ، مع منع استعمال منبهات السيارات، وخروج المواكب بعد العاشرة ليلا، ومنع تثبيت مكبرات الصوت خارج المنازل وقرب المواقع الحساسة كالمساجد والمستشفيات .. ...