1 - مظاهر مستهجنة : يحظى الدستور- باعتباره القانون الأسمى للأمة و الوثيقة التعاقدية الجوهرية – باهتمام بالغ في المجتمعات الديمقراطية ، حيث يسود الاحتكام إلى القوانين و الانضباط إلى المواثيق و المساطر المؤطرة لحياة الفرد و المجتمع . و على النقيض من ذلك نجد أغلبية الدول العربية لا تقيم وزنا لعقلنة الفعل المجتمعي ، و تفضل انتهاج نمط الاستبداد و الحكم الفردي البائد بعيدا عن أية مساءلة . و لعل ما تشهده مختلف المجتمعات العربية حاليا يقوم دليلا على التعاطي غير السليم مع مطالب الشارع المنطقية ؛ المتمثلة في الإصلاحات الجذرية و هز أركان الفساد في مختلف تمظهراته . و تشكل المملكة المغربية إحدى هذه الدول التي واجهت و مازالت مسيرات شبابية مطلبية ؛ تدعو إلى إنجازات ملموسة و عميقة سياسيا و اجتماعيا و اقتصاديا .. مع الأخذ بعين الاعتبار التباين الكبير بين المغرب و باقي الدول العربية في كيفية معالجة هذه المعادلة الصعبة ، فلئن كانت بعض الأنظمة " الجمهورية " قد لجأت منذ الموجة الأولى من الاحتجاجات الشعبية إلى الحل الأسهل و الخاطئ : القمع الدموي المفرط ، فإن المغرب نهج أسلوبا حضاريا باعتراف المراقبين الدوليين ، وترك المحتجين يعبرون عن مطالبهم المشروعة في أجواء سلمية على العموم . و قد استمع العاهل المغربي إلى نبض الشارع فكان الخطابان الهامان ( 9/3/2011 – 17/6/2011 ) عبارة عن إجابة مفصلة عن السؤال الذي طرحه المجتمع المغربي و بالخصوص حركة 20 فبراير التي لعبت دورا كبيرا في استقطاب الشباب غير المنضمين في الأحزاب السياسية " الكبيرة و الصغيرة ". و أعقب ذلك الإعلان عن وثيقة الدستور المغربي السادس ، و الذي تم التصويت عليه يوم ( 1/7/2011 ) بالإيجاب . غير أن مظاهر مستهجنة رافقت عملية التصويت ، الذي كنا نمني النفس أن يمر في مناخ راق ، يقطع مع المسلكيات البدائية ، فالدستور الجديد مع بعض التحفظات ، حمل غير قليل من المكاسب الهامة ؛ مثل دسترة حقوق الإنسان و ضمان ممارستها ، و الانبثاق الديمقراطي للحكومة بقيادة رئيس له صلاحيات كبرى ، و قيام سلطة برلمانية تمارس التشريع و الرقابة ، و تكريس استقلال القضاء ، و تعزيز آليات الحكامة الجيدة و تخليق الحياة العامة و محاربة الفساد و مراقبة المال العام .. كل ذلك لا يحتاج إلى البهرجة الشعبوية عديمة الصلاحية ، و إقحام المعطى الديني للدعاية للدستور في صورة منفرة ، و الاحتفالات غير المجدية التي تحيل إلى العهود سيئة الذكر . 2 - نحو تجديد الوعي السياسي : ما من شك في أن الوعي الفردي لدى المواطن المغربي قد نما بشكل ملحوظ ، بفضل الثورة المعلوماتية ، و انفجار الفضائيات و المواقع التواصلية الافتراضية ، و مختلف المنتجات التكنولوجية المسهلة لنقل المعلومة بالصوت و الصورة عالية الجودة ، بيد أن الثقافة السياسية بمفهومها النبيل و الأرقى تكاد تكون شبه غائبة في الإطار المرجعي للمعرفة المتداولة ، لذلك يغلب التعامل الوجداني العفوي و الاندفاع العاطفي في المطارحات السياسية لقضايا الأمة المصيرية ، و يقل التحليل العلمي و العقلاني الذي يستقرئ القضايا المجتمعية و يستجلي ممكناتها و حدودها ، و في هذا الإطار ندعو إلى الدخول مباشرة في قراءة هذا الدستور الجديد قراءة موضوعية تأخذ بعين الاعتبار إيقاع السياق الإقليمي و العالمي ، و مدى جهوزية البنية السياسية المغربية لأي تغيير هيكلي و نوعي . صحيح لم تتم تلبية مطلب الشباب المغربي المتجسد في إقامة الملكية البرلمانية بحصر المعنى ، و لكن يمكن القول دون مبالغة بأنه تم القطع مع الملكية التنفيذية الفردية ، و يجب التخلي عن التمترس و راء تطلعات دوغمائية حادة ، و الركون إلى المعادلة الصفرية ؛ إما كل شيء أو لا شيء . إن قدر أي نظام ملكي يريد الحفاظ على نفسه لا بد أن يتخذ النمط البرلماني أفقا له ، لمأسسة المجتمع و دمقرطته و تحديثه ، إلا أن ذلك يتطلب استنباتا لقيم سياسية و سلوكات و مبادئ و ميكانيزمات جديدة ، أو بكلمة واحدة ثقافة سياسية مخصوصة حتى نضمن تغييرا سلسا نحو مجتمع الحداثة و إنجاز إقلاع تنموي شمولي ، و في اعتقادنا الشخصي فإن نظاما ملكيا دستوريا ديمقراطيا حقيقيا كفيل بالإجابة على سؤال هذه اللحظة التاريخية المفصلية ، على أن تبدل مجهودات عملاقة لتجاوز هذا الامتحان العسير بسلام ! كما أن الوثيقة الدستورية مهما علت موادها و سمت فصولها ، فإنها في حاجة ملحة إلى فضاء مشجع يساعد على تفعيلها و أجرأتها بالملموس و ترجمتها على أرض الواقع . 3 - مستلزمات النجاح : ولا يمكن تحقيق أي إنجاز فعال إلا عبر ممارسة و تطبيق صادقين لبنود الدستور ، و طبقا لحزمة من الشروط منها قبول الاحتجاجات السلمية و اعتبارها مظهرا من مظاهر الديمقراطية الحديثة ، و تفادي الانزلاق و السقوط في المنحى القمعي و الأمني ، و احترام روح الدستور نفسه الذي دعا في عدد كبير من المواد إلى احترام حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا ، و إشراك كل الفاعلين الحقيقيين في الحقول السياسية و المدنية و الحقوقية ، دون أي إقصاد أو استثناء ، شريطة الالتزام بالثوابت الديمقراطية و الوطنية و الدينية و الترابية للمملكة ، و هل هناك دولة ديمقراطية في العالم لا تعض على أسسها و معتقداتها و وحدة ترابها بالنواجد !؟ بالإضافة إلى ذلك يجب على المسؤولين تلبية المطالب الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية ، ليشعر المواطن بالكرامة و الانتماء ، و محاربة كل مظاهر الظلم الاجتماعي عبر إنجاز المزيد من المشاريع و الاستثمارات و فرص الشغل .. و إحداث رجة مزلزلة داخل الهياكل الحزبية المتهالكة ، و مطالبة " الزعماء " الحزبيين بالرحيل ، لأنهم أبانوا عن عجزهم عن مسايرة إيقاع الإصلاحات المنتظرة ، و إفساح المجال أمام المناضلين الشباب و أصحاب الكفاءات المؤهلين للخوض في المساهمة في بناء الوطن بذهنية اقتراحية متجددة ، و جرأة في اتخاذ القرارات الصعبة ، و تحرير الإعلام السمعي – البصري و تطويره ، حتى يلعب دوره في توعية المواطن بذاته و مجتمعه و العالم المحيط به ، فلا ديمقراطية بدون إعلام حر و مسؤول ؛ يطرح قضايا الأمة على الهواء مباشرة و دون محرمات مع الالتزام بالقيم الديمقراطية المثلى ؛ من قبيل التعددية و الاختلاف و التسامح و الإنصات إلى الآخر .. بل إن نجاح مشروع الدستور يستدعي أيضا و بنفس الحدة انخراط المجتمع المدني و المنظمات الأهلية العاملة في ميدان الطفولة و المرأة و الهشاشة الاجتماعية ، و التقليل من معاناة المعذبين في الأرض من مرضى و مهمشين ، و الجمعيات الحقوقية المدافعة بشراسة عن أبناء هذا الوطن من طنجة إلى الكويرة من أجل تمتيعهم بالعدل و المساواة و الحرية و الكرامة ، و إصلاح المنظومة التعليمية التي تشكو عيوبا كثيرة ، عبر إحداث تغيير جذري للطرق البيداغوجية و الوسائل و المقررات و الرؤى الفلسفية ، وفقا لما يشهده العالم من ثورات كوبرنيكية مذهلة على صعيد المعرفة الحديثة و تعليم المستقبل . * باحث في قضايا الفكر و السياسة