أكيد أن أخطر ما ابتلي به مجتمعنا، ويتعرض له معظمنا، وتواجهه أكثريتنا، في كل الظروف والمناسبات، بفعل الكثير من العوامل الذاتية والموضوعية التي تخلق الجمود، وتنشر اليأس، وتعمم القنوط، وإن بدرجات متفاوتة، تختلف باختلاف الاحتياجات والرغبات والأهداف والتوقعات والظروف والخبرات والمقدرات الجسمية والعقلية، وتلفنا مصادرها الداخلية منها والخارجية المرتبطة بالفكر والثقافة، ليس من وجوهها المشرقة التي هي مصدر غنى وتنوع وتنوير ومفتاح للنهوض والتقدّم، بل في أبشع صورها التي هي دائما مثبط فعلي للعزائم، وكابح كبير للإرادة، وقاتل حقيقي للأمل المتمثل في "ثقافة التيئيس والتبخيس والإحباط" التي تحول الطاقات البشرية إلى كتل صماء منخورة الإرادة، وتجعل الشعور باليأس والقنوط أشد وطأه وإيلاماً على النفوس التي تدرك- وما فالهم غير اللي كيفهم كما يقال- أن موات الشعوب ليس "مرضا وراثيا"، و"لا قدرا محتوما"، ولا يحدث بصورة مفاجئة أو نتيجة سلوك اعتباطي، بل هو حصيلة مجهودات متضافرة يصنعها، مع مرور الزمن، تخطيط وتنظيم وتوجيه ومتابعة سائر السلطات والتيّارات والاتجاهات التي تزعم الاستئثار بالصواب، وامتلاك مفاتيح النهوض وحقيقة التقدّم، ولا ترى مصلحتها إلا في عدم تحقيق مصلحة الجماعة المصيرية، وقضاياها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بما تسلّطت عليه من إمكانات وطاقات، ونهجته من سياسات وممارسات تكاد تقضي على جذور وأسباب القوّة الذاتيّة للمجتمع بالتشكيك في أهدافه وتبخيس لجهوده، الذي لا تقوم به من باب التنافس على استنهاض الهمم، وتجميع الطاقات التي عطلتها الصراعات الحزبية والحسابات السياسوية الضيقة. وإنما يفعلون ذلك من باب تآمر العاجز الذي يواري عجزه، ويعادي كاشفه، ويرفض تغيير نهجه وعاداته، ويأبى تسليم زمام المبادرات -التي تتخذها القوى الحية التي تعلن ولاءها للوطن وتظهر نواياها الطيبة وعزمها على إحداث الخلخلة على مستوى عقلية التفرج وانتظار الفرج- عساهم يصنعون، مشروعات ثقافية مجتمعية حداثية ديمقراطية، كالمشروع الثقافي الذي أطلقته ثلة من الفاعلين الجمعويين ل"فاس الجديد" تحت عنوان "المهرجان الأول للشباب المثالي لفاس الجديد" في صورته الأولى، والتي أحبط المتصرّفون في مصائر ورغبات ساكنة هذا الحي الشعبي، نسخته الثانية -عملاً بالمثل المغربي الدارج ( ما يديروا خير، ما يخليوا اللي يديرو)- والذين كان حري بهم أن يرحبوا بذلك المهرجان، على الأقل كمبادرة خلاقة للديناميكية المجتمعية المتنامية والمتفاعلة بفعالية مع إرادات ومرامي التنمية التحديثية التي يدعو ويشجع عليها ملك البلاد مشكورا. وكما كان يجمل بهم أن ينافسوه في وضع التصورات الجادة، ورسم المسارات القمينة بالتنمية للخروج به (الحي والمهرجان) من الأوضاع الثقافية المتأزمة التي لا يشذّ إلا شاذّ عن الاعتراف بأنه لا شيء يؤزم الأوضاع ويعيق الإنجازات، ثقافية واجتماعية واقتصادية وحتى السياسية، غير التبجّح بالعجز الذي يصر عليه الكثير ممّن يصنّفون أنفسهم في مرتبة النخب المتشبّثة -حتّى الموت أو العزل- بمواقع صناعة القرار السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي، والجمع بينها وبين ممارسة الاحتكار والاستغلال والهيمنة، التي تعمي الأبصار عن إدراك المنجزات الجادة التي تخدم المجتمع وتنمي الوطن. فالواجب الوطني يستوجب استخلاص الدروس والانتقال إلى مرحلة الفعل والسعي لإنجاح المبادرات عبر النظرة الصائبة المستوعبة للعوائق والنواقص والظروف المجتمعية والاقتصادية، ووضعها في الحسبان، وابتكار الوسائل الناجعة للتعامل معها، ابتداء من التنظير والتخطيط، وصولا إلى التنفيذ والتطبيق، مرورا بالمواجهة الذاتيّة الدائبة والتطوير المنهجيّ المنبثق عنها، حتى تستقيم على سكة التنمية المستدامة والاندراج في العصر بعد تأهيله، بدل التيئيس والتبخيس وخلق العوائق، التي طبقتها تلك "النخب المزعومة" المعادية لمهرجان "فاس الجديد" مند ولادته، والذي زعم المتسلطون عليه أن مبتكروه لم يصلوا بعد سنّ الرشد الذي يمكنهم من خلق وإدارة مهرجانا شعبيا خاصا بحيهم الشعبي الذي هو-حسب المتسلطين- دون مستوى رفع الوصاية عن أهله. على ضوء هذه التصرفات غير اللائقة، يقف المرء مشدوها مذهولا، لا يكاد يصدّق أن هذه المواقف المحبطة للعزائم، يمكن أن تحصل فعلا في بلد يحكمه ملك شاب لا يفتأ يؤكد على القطع مع نزوعات التيئيس والتبخيس والتشكيك والعدمية التي تزيد من تأزيم الأوضاع ووضع العصي لحصر عجلات التنمية. كما جاء في خطاب العرش ليوم الأربعاء 30/07/2008 بمناسبة حلول الذكرى التاسعة لتوليه مقاليد الحكم، حيث قال أنه سيظل ملكا لجميع المغاربة، على اختلاف مكوناتهم، ورمزا لوحدة الأمة، ومؤتمنا على سيادة المملكة وحوزتها الترابية، وبيّن أنه "مهما كانت محدودية النتائج الآنية، فإن المبادرة والمثابرة والنفس الطويل، يجب أن تكون عماد تدبير الشأن العام وأن تحديات مغرب اليوم، " لا يمكن رفعها بوصفات جاهزة أو بإجراءات ترقيعية أو مسكنة أو بالترويج لمقولات ديماغوجية ترهن الحاضر بالهروب إلى مستقبل نظري موهوم، وأضاف أن أساس نجاح أي إصلاح يكمن في" ترسيخ الثقة والمصداقية والتحلي بالأمل والعمل والاجتهاد وعدم الانسياق لنزوعات التيئيس والتشكيك والعدمية خاصة في الظروف الصعبة". فهل الأعمال المحبطة الصادرة عن مسؤولي فاس الجديد، هو تصرف منطقي صادر عن نوايا طيبة، أم هو تعامل نابع عن وهم خطير بتحقيق منفعة من المنافع العامّة أو الذاتية، أو هو من باب الغباء المطبق أو الجهل المركب، أم هو تآمر على شعبية هذا الحي الطيب البسيط المتسامح المؤمن بالقدر خيره وشره. ومهما تكن الأمور، وعلى الرغم من تباينها الواضح، إلا أنها تنتهي إلى نفس الحصيلة الشديدة الوطأة على الطرفَ المتضرّر التي تنقل إليه عدوى اليأس والتعجيز، وخاصة منه الجيل الجديد، جيل المستقبل، الذي لا خبرة له ولا معرفة أو وعي وقدرة على استيعاب الواقع وتخطيطاته، والتعامل معه على النحو الصحيح. لذلك تجب إتاحة الفرص المناسبة لتدريبه على خوض غمار التنمية والمنافسة على اقتراح الحلول اًلبديلة وتجاوز الوضع القائم في سلبيته مهما تعددت، وإبداء الرأي وتقبل الرأي الآخر واحترامه، وذلك لأن ثقافة التيئيس تحمل كل نفس تصيبها على الشعور بالفشل وخيبة الأمل وإدراك وجود عقبات تحول دون إشباعها لما تسعى إليه من حاجات ودوافع. وذلك، في نظري، جريمة مزدوجة.