ذ. محمد عادل التريكي لسنا في صدد تحليل الواقع السياسي والاجتماعي للعالم العربي الذي لا تتألف فيه الديمقراطية إلا بغيابها، وإنما ينحصر همنا بتحديد بعض الإشكاليات النظرية التي قد تساعد على تبلور المفهوم وعلى سوقه من مجال المصادرة الأيديولوجية اللا مفكر فيها إلى مجال الوعي النقدي الذي لا يطأطئ رأسه للمسلمات حتى ولو كانت مجمعاً عليها الإجماع العربي الراهن على الديمقراطية، على صعيد الأنتلجنسيا على الأقل. ولسنا بصدد اتخاذ موقف هجائي من الأنتلجنسيا العربية. ولكن ما كنا لاحظناه من إضراب للأنتلجنسيا العربية عن التفكير بصدد مسألة العلمانية، قابل لأن يسحب على موقفها من مسألة الديمقراطية. فهي تقبل هذه الأخيرة بالنحو اللا مشروط ذاته الذي ترفض به الأولى. وبطبيعة الحال، نحن لسنا من رفضة الديمقراطية، ولكننا نعتقد بجزم بضرورة الانتقال من أيديولوجيا الديمقراطية إلى إبستمولوجيا الديمقراطية، علماً بأن ما يميز الفكر الإبستمولوجي عن الفكر الأيديولوجي هو إخضاعه نفسه، في مسلماته بالذات، للنظر النقدي. من منطلق هذا اللا تسليم بالمسلمات فإن أولى إشكاليات الديمقراطية العربية قابلة، على ما نعتقد، لتسمية مجازية: إشكالية المفتاح والتاج. فالموقف الأيديولوجي يرى في الديمقراطية مفتاحاً لحل مشكلات المجتمعات العربية. وهذا المفتاح هو بالضرورة من طبيعة سحرية، مثله في ذلك مثل سائر (المفاتيح) العجائبية التي أناطت بها الأيديولوجيا العربية معجزة النقلة الفجائية، بلا مجهود ولا كلفة ولا زمن، من واقع التأخر إلى مثال التقدم. ففكرة الديمقراطية تضطلع اليوم بالوظيفة نفسها التي اضطلعت بها في طور فائت فكرة الثورة، وفكرة الاشتراكية، ومن قبلهما فكرة الوحدة، أو حتى فكرة النهضة. فالديمقراطية تعمل ههنا كمطلق. فهي الشرط السابق لكل شرط. بدونها لا شيء، وبها كل شيء. وكدواء الجميع الأدواء، فإنه لا يجري أبداً التفكير بأن الديمقراطية قد لا تكون قابلة، حتى كترياق، لأن يتحملها الجسم المريض أو المسموم. وهذا لا يعني أن الديمقراطية لا تصلح لأن تكون نقطة انطلاق، ولكن ذلك فقط بقدر ما تشكل في الوقت نفسه نقطة وصول. وذا كان لها أن تدشن تطوراً بعينه، فليس يجوز أن يغيب عن الوعي أنها تتوج التطور. (وقبل أن تكون الديمقراطية مفتاحاً لجميع الأبواب الأخرى، فإنها هي نسها بحاجة إلى مفتاح، ولعل بابها لا ينفتح إلا بعد أن تكون جميع الأبواب الأخرى قد فتحت أو بالتواقت معها على الأقل). وحتى إذا أمكن تصور الديمقراطية كسابقة، لا كلاحقة، فليست هي عصا الجنية. بل معول فعلة التاريخ الذين هم بشر من لحم ودم وعرق ومادة سنجابية. وليس الهدف من هذا التوكيد على مشروطية الديمقراطية تسفيه من يرفعون شعارها كشرط. بل فقط التحذير من وهم المعجزة ومن منطق المعجزة. فليس ما يقتل المثال كالغلو في انعتاقه من قيد الواقعية. وبقدر ما تتحول الديمقراطية إلى مذهب من مذاهب العصر الذهبي، فإن الديمقراطية قد تكون قاتلة للديمقراطية. فالديمقراطية منطق لا لاهوت، معادلة جبرية لا صيغة سحرية، ومغارتها لا تفتح بأي (سمسم) ولا تنطوي على كنوز. وهي أصلاً ضد منطق الكنز، ولا تعد بأي فردوس. ولا تندر الحالات التي تكون فيها ممارستها (جهنمية)، كما في فرنسا في ظل الجمهورية الرابعة، أو في إيطاليا في عهد الأزمات الوزارية المتتالية، أو في تركيا في ظل التهديد الدائم بالانقلابات العسكرية. بل لعل الديمقراطية تتعارض، في ماهيتها بالذات، مع فكرة المثال. فهي أكثر مذاهب الحكم واقعية، ولا تتطلب أبطالاً ولا أطهاراً، بل كلما كان الحكام (عاديين) كانت ضمانات الممارسة الديمقراطية، من حيث هي بالتعريف (لعبة)، أكبر. إذا لم تكن الديمقراطية ثمرة برسم القطف، بل وبالقدر نفسه على الأقل بذرة برسم الزرع، فإن السؤال يطرح نفسه: هل الديمقراطية هي مجرد صيغة للحكم، أم هي أيضاً ثقافة؟ هنا تحديداً تكمن ثانية إشكاليات الديمقراطية العربية. فهي تصور من قبل أنصار المذهب الديمقراطوي وكأنها فاكهة الجنة، مع أن الحاجة أشد ما تكون، في الحالة العربية، إلى رعايتها كبذرة. ففي حالات التطور العضوي، كما في الديمقراطيات الغربية، قد تتبدى الديمقراطية وكأنها تحصيل حاصل ولا يحتاج اشتغالها إلى أكثر من إجرائيات. ولكن في حالات التطور المنقطع أو المبتسر، كما في الحالة العربية، فإن اختزال الديمقراطية إلى مجرد إجرائيات من شأنه أن يقتل بذرتها في مهدها. فالثقافة الديمقراطية هي هاهنا شرط تخصيب التربة وشرط النماء. وبدون ثقافة الديمقراطية التي ينبغي أن تكون في رأس جدول وظائف الإنتلجنسيا العربية المتدقرطة فإن الإجرائية، أو الشكلانية الديمقراطي كما قد يؤثر بعضهم أن يقول، قد تنقلب وبالاً على الديمقراطية نفسها. فالديمقراطية هي بالتعريف نقيض الطغيان وترياقه. ولكن بدون ثقافة الديمقراطية فإن الشكلانية الديمقراطية قد لا تكون حاملة معها إلا لسم الطغيان، وحصراً منه طغيان العدد. وهذا ما يقودنا إلى ثالثة إشكاليات الديمقراطية العربية: إشكالية الغالبية. الديمقراطية، تعريفاً، هي بكل تأكيد حكومة العدد الأكبر، أو بتعبير أدق الحكومة التمثيلية للعدد الأكبر. ولكن هذا العدد الأكبر ليس منطلقاً. وليس في الديمقراطية أصلاً مكان للمطلقات. فالعدد الأكبر متغير دائم ومقولة من مقولات النسبية. وبعكس الغالبيات في الأنظمة الإطلاقية، فإن الغالبية في الديمقراطية مقولة أفقية لا عمودية. ونسبة المقولة الأفقية إلى العمودية كنسبة المتحول إلى الثابت. فما هو عمودي في المجتمع هو كل ما له صلة بالهوية، سواء تجلت هذه الهوية بالدين أو الطائفة أو الإثنية أو القبيلة أو الطبقة المغلقة Caste (على الطريقة الهندية). أما ما هو أفقي فذاك ما هو عابر لتلك الكيانات الثابتة والدائمة، وما يمكن أن يتمثل بمؤسسات المجتمع المدني أو الأحزاب السياسية (بالمعنى الحديث للكلمة) أو النقابات، إلخ.. ونظراً إلى ضعف ثقافة الديمقراطية في المجتمعات العربية، فإنه كثيراً ما يلحظ انزياح في تصور عامة الناس، كما في كتابات بعض المشاهير من المثقفين (الديموقراطويين)، من المفهوم الأفقي للغالبية إلى مفهومها العمودي. فنصاب الغالبية عندهم جوهري لا عرضي، أنطولوجي لا أيديولوجي، ماهوي لا مقولي. ومسرح الصراع هو المجتمع نفسه، في عمق عمقه، لا مؤسسات السطح السياسي من برلمان أو غيره: ديانة في مواجهة ديانة، وطائفة في مواجهة طائفة، وإثنية في مواجهة إثنية. والغالبية هي غالبية إسلامية أو مسيحية، سنية أو شيعية، عربية أو بربرية (أو كردية). والتمثيل، كما في (الديمقراطية) اللبنانية، تمثيل طوائي لا حزبي. وحتى إن وجدت أحزاب، كما في لبنان دوماً، فهي في الغالب أحزاب طوائف. وكما في لبنان دوماً وأخيراً، فإن المقياس الأول للغالبية هو العدد الإحصائي لأبناء طائفة بعينها. فالغالبية كانت بالأمس القريب مارونية، وهي اليوم شيعية. ولانتقال السلطة برأسها الرئاسي وجذعها البرلماني من غالبية سابقة إلى غالبية لاحقة فليس من سبيل سوى حرب أهلية. ورواندا تقدم مثالاً على العكس. فالسلطة هاهنا كانت بيد الأقلية (إثنية التوتسي). وكيما تستعيد الأكثرية (إثنية الهوتو) حقها (الديمقراطي) فيها، فلا بد من تذبيح التوتسي (ما بين مليون ومليونين)! ومثل هذا النكوص من مفهوم جدلي ومتطور لديمقراطية الغالبية إلى مفهوم سكوني ومتخلف يلحظ اليوم حتى في بعض البلدان العريقة في محاكاتها للديمقراطية الغربية مثل الهند في الشرق الأقصى وإسرائيل في الشرق الأدنى. ففي الهند تكف الغالبية عن أن تكون مؤتمرية (نسبة إلى حزب المؤتمر) لتصير أكثر فأكثر هندوسية. أما في إسرائيل فإن الأقلية، لا الأكثرية، هي التي تتدين وتتطوف. ولكن نظراً إلى توازن القوى ما بين الغالبيتين، اليسارية واليمينية، فإن الأقلية المتدينة والمتطوفة في سبيلها إلى أن تفرض نفسها بقوة أكبر فأكبر لا على الحياة السياسية فحسب، بل أيضاً على الحياة الاجتماعية والمدنية. وهذه النقلة للصراع من السطح السياسي إلى العمق المجتمعي هي التي تجعل بعض المراقبين يتحدثون من الآن عن احتمالات حرب أهلية في إسرائيل. وتقدم إفريقيا الجنوبية بدورها مثالاً على احتمال نكوص من هذا القبيل. فقد استطاع هذا البلد أن يحقق قفزة ديمقراطية كبيرة إلى الأمام بإلغائه نظام التفرقة العنصرية (الأبارتيد). ولكن الخطر الذي يتهدد إفريقيا الجنوبية مستقبلاً قد لا يقل فداحة عن السرطان العنصري الذي كان يلتهم خلاياها ماضياً. فكما كانت الأقلية الديموغرافية البيضاء تحكم الأكثرية الديموغرافية السوداء، فإن أيلولة السلطة إلى السود دون البيض من شأنها أن تعيد إلى مفهوم الغالبية والأقلية مع قلب الأدوار محتواه الديموغرافي والإثني، مما ينذر بحرب أهلية لا تقل بشاعة عن الحرب الرواندية. وواضح للعيان أن بقاء اللعبة الديمقراطية لعبة لا تحولها إلى مذبحة فعلية هو وحده الذي من شأنه أن يضمن لإفريقيا الجنوبية مستقبلاً. وهذا المستقبل مرهون بانعتاق جدلية الغالبية والأقلية من طابعها العمودي الإثني وبإبقائها أسيرة السطح السياسي والصراع البرلماني والحزبي ما بين قوى أيديولوجية عابرة للهوية اللونية. والحال أن مستقبلاً من هذا القبيل ليس مضموناً للعديد من أقطار العالم العربي. فمصيبة العالم العربي لا تكمن فقط في كون معظم حكوماته دكتاتوريات، ومن طبيعة عسكرية في الغالب، بل كذلك في كون هذه الدكتاتوريات قد تحولت في العقود الثلاثة الأخيرة من محض دكتاتوريات أفقية قابلة للإطاحة بها، بلا كلفة كبيرة، بانقلابات عسكرية مضادة، إلى دكتاتوريات عمودية ترتكز على عصبيان دينية وطائفية وقبلية، وغير قابلة للتغيير بالتالي إلا بكلفة بشرية باهظة تأخذ بالضرورة شكل مذبحة للنخبة الحاكمة، هذا إن لم تأخذ شكل حرب أهلية. ومما يزيد في وخامة هذه الصورة أن الدكتاتوريات لا تواجه في الغالب من قبل المعارضات من مواقع ديمقراطية فعلاً. فالمعارضات العربية، شأن الدكتاتوريات التي تعارضها، تقف في الغالب على الأرضية الطائفية أو القبلية نفسها، ولكن من خندق مضاد. والأقليات الحاكمة لا تكره ولا تعارض لأنها حكومة أقلية بقدر ما تحارب لأنها حكومة طائفة بعينها، سواء أكانت طائفة أكثروية أو أقلوية. وليست الدكتاتورية بحد ذاتها هي موضع المعارضة، بل طبيعتها الطائفية أو القبلية المغايرة. وعلى هذا النحو، فليست الديمقراطية هي المرشحة لأن تخلف دكتاتورية ساقطة. فالدكتاتورية ستبقى، بينما الطائفة أو العشيرة هي وحدها التي ستتغير. وبين نار الحكومات الفئوية والمعارضات الفئوية فإن الفرد الديمقراطي حقاً يقف حائراً، وفي وضعية من الاستقالة. ومن هذا المنظور تحديداً، فإن وظيفة الأنتلجنسيا العربية لا تكمن في ممارسة المعارضة بقدر ما تكمن أساساً في ممارسة التربية الديمقراطية.