يحتفي المغرب باليوم الوطني للأرشيف الذي يصادف الثلاثين من شهر نونبر من كل سنة، وهو موعد سنوي يحيل على تاريخ صدور أول قانون أرشيفي في مغرب الاستقلال، ويتعلق الأمر بالقانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف (30 نونبر2007)، الذي شكل وقتها، حدثا تشريعيا بامتياز عزز المنظومة التشريعية الوطنية، لأنه أدخل الأرشيف إلى دائرة الاهتمام الرسمي بعد عقود من الإهمال والضياع، وأعاد الاعتبار للوثيقة الأرشيفية، كقيمة علمية وتاريخية وحقوقية وحداثية واستراتيجية، وشكل "الحجر الأساس" لبناء منظومة أرشيفية قانونية وتنظيمية متكاملة، تحولت من خلالها الممارسات الأرشيفية إلى ممارسات خاضعة لسلطة القانون الأرشيفي ومحتكمة لمقتضيات مرسومه التطبيقي (المرسوم رقم 2.14.267). يوم وطني للأرشيف يحل هذه السنة في ظرفية خاصة واستثنائية مرتبطة بجائحة كورونا التي لازالت تفرض سلطتها على العالم، محدثة حالة من الارتباك والقلق والخوف والتوجس والانتظار، وكان من الضروري أن تتأثر المؤسسة الحاضنة لٍلأرشيف العمومي "أرشيف المغرب" على غرار مجموعة من المؤسسات والإدارات، بالظرفية الوبائية السائدة منذ ما يناهز السنة، على مستوى مشاريعها وخططها وأنشطتها العلمية والثقافية والتواصلية والإشعاعية المعتادة، في ظل ما تم فرضه من قبل السلطات العمومية من إجراءات وقائية وتدابير احترازية للحد من انتشار وتفشي العدوى.
ورغم الإكراهات الوبائية القائمة، استطاعت المؤسسة أن تظل وفية لخطتها الرامية إلى تكريس "أرشيف القرب" وأن تبقي على جسور التواصل والإشعاع ممتدة على أكثر من مستوى مع مرتفقيها وعموم الجمهور، سواء عبر خدمات قاعة المطالعة أو عبر الموقع الرسمي للمؤسسة الذي تم استثماره لتقاسم مجموعة من الوثائق مع عموم الجمهور أو عبر وسائل الإعلام خاصة الإلكترونية، التي نشرت لنا مشكورة طيلة موسم كورونا عدة مقالات حول "أرشيف المغرب" عاكسة لرؤيتنا للأرشيف في أبعاده التاريخية والعلمية والتربوية والتراثية والهوياتية والحقوقية والحداثية والاستراتيجية، أو عبر "مجلة الأرشيف" التي باتت نافذة الباحثين والمهتمين وعموم الجمهور على عالم الأرشيف وعلى واقع الممارسة الأرشيفية بالمغرب.
وفي هذا الصدد، بادرت المؤسسة الأرشيفية إلى نشر مضامين مجموعة من الأرصدة الوثائقية والفهارس الخاصة عبر مراحل، وعلى الرغم من صعوبات وإكراهات المرحلة، راهنت على استهداف الأرشيفات الخاصة، فأمكن لها احتضان أرشيفات نوعية ذات صلة بالهندسة المعمارية، وتأتى لها احتضان أرشيف الراحل عبدالرحمان اليوسفي" بناء على وصية تركها الفقيد قبل وفاته، كما راهنت على جانب "التكوين" كآلية لامحيد عنها لتجويد واقع الممارسة الأرشيفية على صعيد الإدارات المركزية، وعموما يمكن استعراض حصيلة المؤسسة طيلة موسم كورونا على النحو التالي :
– مبادرات خادمة للبحث العلمي ومكرسة لأرشيف القرب : تفعيلا لخطتها الرامية إلى نشر مضامين ما تحتضنه مستودعاتها من أرشيفات خاصة، بادرت المؤسسة إلى نشر جملة من الأرصدة والفهارس الخاصة، ويتعلق الأمر ب :
– أرصدة "ديزيري سيك"، "شمعون ليفي"، "محمد العربي المساري"، "عبدالصمد الكنفاوي"، "فرنسيس كوان"، "عفيف بناني"، "محمد جسوس"، "رصيد الأحباس" و"صيد مديرية الشؤون الأهلية"(تم الإعلان عن الأرصدة بتاريخ 3 يوليوز 2020).
– أرصدة "محمد القري"، "محمد بن الحسن الحجوي"، "عبدالله عواد"، "قرقوز"، "عبدالحق المريني"، "عبدالله شقرون"، "مولاي أحمد الوكيلي"، عبدالكريم كريم" و"رصيد الحوالات الحبسية" ( تم الإعلان عن الأرصدة بتاريخ 10 يوليوز 2020).
– فهرس "القسم التاريخي" (SH) (يتكون هذا الرصيد، من مجموعة من الوثائق المتنوعة التي جمعها "هنري دوكاستر" ومن خلفه في مهامه، وهي وثائق متعلقة بمشروعه التاريخي المنشور "المصادر الغميسة لتاريخ المغرب'،' محتوية على نسخ وصور لمراسلات مختلفة بين السلاطين المغاربة والدول الأوربية (خلال الفترة الممتدة من القرن 16م إلى القرن 19م)، وملاحظات ومعلومات مدونة عن المغرب وقبائله (صور فوتوغرافية، قصاصات الصحف) ، ووثائق عبارة عن مراسلات وأعمال البحث المتعلقة بتاريخ المغرب، وكذا وثائق تهم إنشاء القسم التاريخي التابع لإدارة الحماية الفرنسية بالمغرب).
– فهرس مجموعة "بروسبير ريكار": مجموعة ذات قيمة علمية في حفظ التراث المادي المغربي، تتكون من وثائق مختلفة متنوعة المضامين، خاصة الدروس التي قدمها "بروسبير ريكار" بالمعهد العالي للدراسات المغربية، والتي شملت مواضيع تهم مجال الفنون والحرف، وتأسيس المدن الإسلامية والتجمعات الحرفية التقليدية … ، كما شملت العديد من المقالات والدراسات والصور والمراسلات، علاوة على بعض التدوينات التي كان يلقيها "بروسبير ريكار" على أمواج الإذاعة عن الفنون والحرف المغربية". وكلها مبادرات قيمة، ذات صلة بخطة شمولية، ترمي من خلالها "أرشيف المغرب" وضع ما تزخر به من أرصدة وثائقية تحت تصرف الباحثين والمهتمين، بشكل قد يساعد على خلق "منصة أرشيفية رقمية" تتحقق معها غايات تيسير سبل البحث العلمي وتقريب الخدمة الأرشيفية من المرتفقين في أفق كسب رهان "أرشيف القرب".
– احتضان أرشيفات خاصة "نوعية" معززة للتراث الأرشيفي الوطني : ارتباطا بخطتها الرامية إلى استهداف "الأرشيفات الخاصة" ذات النفع العام، فقد نجحت المؤسسة على التوالي في احتضان أرشيف المهندسين المعماريين الكبيرين :
– باتريس دومازيير: ولد في مدينة الرباط سنة 1930 في أحضان أسرة مشهورة في مجال الهندسة المعمارية، بصم المشهد المعماري العصري بالمغرب لمدة نصف قرن من الزمن (1962-2013)، تم وضع اليد على جانب من وثائقه الخاصة بعد نحو سنتين من المشاورات والإقناع، بموجب اتفاقية تم توقيعها بالرباط بتاريخ 21 فبراير 2020، التزمت من خلالها المؤسسة بالحفاظ على الرصيد، وذلك بمعالجته وفق قواعد "علم الأرشفة" والقيام بتثمينه وإتاحته للمرتفقين في إطار الحق في الاطلاع، مع الإشارة إلى أن المعني بالأمر قد وافته المنية بعد مضي حوالي أربعة أشهر من توقيع الاتفاقية، وتحديدا بتاريخ 7 يونيو 2020.
– عبدالرحيم السجلماسي: ولد في بور ليوطي (القنيطرة) سنة 1946 في أحضان عائلة من الفنانين، التحق بمدرسة الفنون الجميلة بباريس سنة 1965 وتخرج منها بتفوق سنة 1973، واستقر به المقام بالدار البيضاء، حيث بصم على مسار مهني معماري متميز، ووافته المنية سنة 2013، وقد أمكن احتضان أرشيفه بموجب اتفاقية هبة بين السيدة سلمى الزرهوني (أرملته) ومدير "أرشيف المغرب" السيد جامع بيضا، وذلك بتاريخ 17 شتنبر 2020.
– احتضان أرشيف الراحل "عبدالرحمان اليوسفي" : يبقى الحدث البارز الذي طبع أنشطة المؤسسة خلال هذا الموسم الكوروني، هو احتضانها لأرشيف أحد رجالات الدولة البارزين، ويتعلق الأمر بالراحل الأستاذ "عبدالرحمان اليوسفي"، الذي أوصى قبل رحيله بأن توضع وثائقه الأرشيفية رهن إشارة المؤسسة الحاضنة للأرشيف العمومي وبعض أغراضه العينية رهن إشارة مؤسسة "متاحف المغرب"، وهي مبادرة راقية، عاكسة بجلاء لما عرف عن الرجل رحمه الله من مسؤولية واتزان ونزاهة واستقامة ونكران للذات ووطنية حقة واستحضار للمصالح العليا للوطن.
– رهان احتضان "أرشيف أحرضان" : يتزامن اليوم الوطني للأرشيف لهذه السنة، برحيل قيدوم السياسيين المغاربة الراحل "العربي أحرضان" الذي لم يسلك الطريق الذي سلكه الفقيد "سي عبدالرحمان"، وترك وثائقه الأرشيفية بين أيدي ذوي الحقوق (الورثة)، و"أرشيف المغرب" مطالبة بالتحرك وفق ما يخوله لها القانون، في أفق احتضان أرشيف "سي المحجوبي" تكريما له واعترافا بمكانته وبمساره النضالي والسياسي الحافل، وهذا التحرك لا يعفي ورثة الراحل من مسؤولية القابلية والاستعداد والمبادرة واستعجال التواصل بأرشيف المغرب، من أجل إما طلب الخبرة أو التشاور حول السبل الممكنة التي من شأنها حفظ تراث الراحل ومعالجته وتثمينه.
– تفاعل مع الأعياد الوطنية والمناسبات الدولية (عيد المسيرة الخضراء، عيد الاستقلال، اليوم العالمي للطفل، اليوم العالمي للتسامح) : تفاعلا مع الأحداث والأعياد الوطنية، نشرت المؤسسة بمناسبة الذكرى 45 للمسيرة الخضراء، مجموعة من الوثائق الفريدة المنتقاة من "رصيد ولد السالك" الذي تم جرده وإتاحته للعموم (عائلة ولد السالك من إحدى كبريات الدور التجارية التي لعبت دورا تجاريا متميزا أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين)، كما نشرت بمناسبة الذكرى 65 لعيد الاستقلال مجموعة من الوثائق الفريدة والمختارة من الأرصدة المحفوظة لديها، تلامس مفهوم الهوية والانتماء للوطن.
واحتفاء باليوم العالمي للطفل وبالذكرى الواحدة والثلاثين للمصادقة الأممية على اتفاقية حقوق الطفل، تقاسمت المؤسسة، مجموعة من الصور الفريدة المنتقاة من الأرصدة المحفوظة لدى المؤسسة، والعاكسة لجانب من حقوق الطفولة المغربية في التربية والتمدرس، وهي مبادرة رائدة من شأنها الرهان على الأرشيف لخدمة قضايا الطفولة والتربية والتعليم، وتفاعلا مع "اليوم العالمي للتسامح" بادرت إلى نشر صور ووثائق من معرض "الحضور المسيحي بالمغرب : العيش المشترك"، دون إغفال مشاركة المؤسسة في شخص مديرها الأستاذ "جامع بيضا" في تخليد الذكرى 90 لتأسيس الصندوق المغربي للتقاعد (الرباط، 20 أكتوبر2020) … – رهان على "التكوين" لتجويد واقع الممارسة الأرشيفية: إيمانا منها بأهمية التكوين في تجويد واقع الممارسة الأرشيفية، نظمت المؤسسة الأرشيفية بتنسيق مع مدرسة علوم المعلومات، أشغال دورة تكوينية في الفترة الممتدة من 19 إلى غاية 27 أكتوبر المنصرم، لفائدة ممثلي الإدارات المركزية في موضوع "الحفاظ على الأرشيف العمومي وتدبيره"، وهي دورة تكوينية أتت في إطار تفعيل مقتضيات القانون الأرشيفي ذات الصلة بإحداث بنيات إدارية مكلفة بالأرشيف ولجان للأرشيف بمختلف الإدارات العمومية، وترجمة لمضامين "الدليل المرجعي لتدبير الأرشيف العمومي" الذي أعدته المؤسسة والمنشور سنة 2017، وكذا في سياق الإسهام في إنجاح ورش الحكومة المنفتحة، بتنفيذ المؤسسة لما سطر لها من التزامات ضمن المحور الخاص بالوصول إلى المعلومة، عبر برمجة تكوينات لفائدة المكونين داخل الإدارات والمؤسسات العمومية، وفي ذات السياق، سبق للمؤسسة أن نشرت "دليل الموظف(ة) في التعامل مع الأرشيف العمومي" (2020)، وهو دليل من شأنه تقديم معلومات ميسرة للموظفين خاصة المشتغلين في الأرشيف، فيما يتعلق بطرق تعاملهم مع الأرشيف.
– مبادرات يقف وراءها طاقم أرشيفي متمرس : مبادرات وأنشطة من ضمن أخرى، ما كان لها أن تتحقق على أرض الواقع، لولا احتضان "أرشيف المغرب" لطاقم أرشيفي متمرس من الأطر والكفاءات الشابة تحت الإدارة المتبصرة لمدير المؤسسة الأستاذ الجامعي والمؤرخ "جامع بيضا"، ونستغلها فرصة، لنتوجه إليهم بأصدق عبارات التهاني والأماني، منوهين بما يضطلعون به من مهمات وما يقومون به من أدوار متعددة المستويات، في سبيل حفظ ورعاية وتثمين التراث الأرشيفي الوطني، وهي مهمة مواطنة تقتضي النهوض بأوضاعهم المهنية والاجتماعية عبر إعادة النظر في القانون الأساسي المؤطر لوضعيتهم المهنية، وتمكينهم من كافة الوسائل البشرية والمادية واللوجستية، لأنهم حماة الهوية المشتركة وحراس التاريخ والذاكرة الجماعية، وجنود الخفاء الذين ينسجون في صمت خيوط تاريخنا المشترك ويرصعون بدقة متناهية قلادة ذاكرتنا الجماعية،ونكاد نجزم أن ما يقومون به داخل أروقة ومستودعات "أرشيف المغرب" بالرباط، لا يقل قيمة أو أهمية، عما يقوم به الجنود "المرابطون" في الحدود، فكلاهما "جنود"، بعضهما يحمي ذاكرة الوطن والبعض الآخر يحرس حدود الوطن، ونفس التهنئة نوجهها لكافة الأرشيفيين المرابطين بمكاتب الأرشيف بمختلف الإدارات، والذين يحتضنون الوثائق الأرشيفية في مهدها، قبل أن يستقر بها المقام في أحضان "أرشيف المغرب" ما لم تخضع إلى مسطرة الإتلاف.
– إكراهات و رهانات : ختاما وبقدر ما نثمن ما حققت المؤسسة الأرشيفية من حصيلة إيجابية طيلة هذا الموسم "الكوروني"، بقدر ما نرى أن هذه الحصيلة لايمكنها أن تحجب عنا شمس ما يعترض عمل المؤسسة من إكراهات مرتبطة أساسا بضعف الحصيص (الموارد البشرية) وغياب المقر اللائق الذي يستجيب لمعايير حفظ الأرشيف كما هي متعارف عليها دوليا، مما يحول دون التفعيل الأمثل لمقتضيات قانون الأرشيف على أرض الواقع، وما يواجهها من تحديات ورهانات متعددة الزوايا، على رأسها مسألة "الأرشيف المغربي" بالخارج والصعوبات التي تعتري عمليات إرجاعه، والعراقيل ذات الصلة باحتضان الأرشيفات الخاصة بعدد من رجالات الفكر والسياسة والثقافة والفن والإبداع، الذين ينقصهم الاستعداد وتغيب عنهم المبادرة، مما يصعب من مأمورية المؤسسة في الوصول إلى ما يحتضنون من تراث أرشيفي، في حياتهم كما بعد رحيلهم، والصعوبات التي تواجهها المؤسسة في الولوج إلى الأرشيفات التي تحتضنها جمعيات المجتمع المدني في جميع جهات المغرب، في ظل محدودية الوسائل البشرية والمادية واللوجستية، وهذا الواقع يجعل جزءا من الذاكرة الوطنية خارج دائرة الاهتمام الرسمي وخارج صرح الأرشيف العمومي، دون إغفال مسألة الأرشيف الجهوي الذي بات خيارا لامحيد عنه انسجاما ومقتضيات الجهوية المتقدمة.
ومع جائحة "كورونا"، دخلت المؤسسة في تحدي "الرقمة"، في ظل الإقبال "غير المسبوق" للمؤسسات والإدارات العمومية على "الرقمنة" لضمان استمرارية عملها وتقديم الخدمات "عن بعد" إلى مرتفقيها، مما أفرز ويفرز واقعا أرشيفيا جديدا من سماته البارزة، بروز "الأرشيفات الإلكترونية" التي ستزداد دائرتها اتساعا في قادم السنوات، بعدما ألفت الإدارات الممارسة الرقمية وانسجمت معها، و"أرشيف المغرب" مطالبة اليوم بتوجيه البوصلة نحو هذا النمط الأرشيفي الإلكتروني الآخذ في التنامي، والذي يتطلب رؤية تدبيرية خاصة، بالمقارنة مع "الأرشيفات التقليدية" (الورقية)، وهذا يقتضي استعجال إعادة النظر في القانون المنظم للأرشيف بعد مضي 13 سنة من صدوره، بعدما كشفت الجائحة عما يعتريه من مظاهر القصور والمحدودية، وتعديله بات أمرا لا محيد عنه، حتى يستوعب المتغيرات الطارئة من قبيل الأرشيف الجهوي، الأرشيف الرقمي، الأرشيف الإلكترونية والجرائم الماسة بها …، وهذه الأنماط الأرشيفية تغيب كلية عن القانون الأرشيفي الحالي، وهذا يجعل منه قانونا "متجاوزا" قياسا للواقع.