الرئاسة المغربية لمجلس السلم والأمن لشهر مارس.. المملكة تدعو إلى تعزيز دور لجنة الحكماء    الأداء السلبي ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    نسبة ملء سدود الجهة الشرقية يبلغ 49 بالمائة    العراق يملك واحدا من أعلى احتياطيات الذهب عربيا ب162طنا    مسؤولون يترحمون على محمد الخامس .. باني الأمة ومضحي للاستقلال    انتخاب بوعياش بالإجماع لرئاسة التحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان    تلوث الهواء يطال 14 مدينة هندية    أمطار وثلوج ورياح تقصد المغرب    الملاحة البحرية تضطرب في طنجة    العم مشتبه في قتل الطفلة "جيداء"    الناصيري ينفي الإساءة إلى حجيب    مجلس الحكومة يناقش حصيلة العمل مع البرلمان    استمرار المعاناة والإقصاء منذ عام ونصف يدفع متضرري الزلزال إلى الاحتحاج في مراكش    أمطار وثلوج مرتقبة اليوم الثلاثاء بالمغرب    الشابي يشيد بقتالية الرجاء بعد الفوز على النادي المكناسي    الحبس والطرد من الإمارات.. تفاصيل قضية الفاشينيستا روان بن حسين في دبي    صيدلاني يشجع الشك في "الوعود الدعائية" للعقاقير الطبية    علماء: الإكثار من الدهون والسكريات يهدد المواليد بالتوحد    نهضة الزمامرة يعيّن الفرنسي ستيفان نادو مدربًا جديدًا خلفًا لبنهاشم    المسرح يضيء ليالي الناظور بعرض مميز لمسرحية "الرابوز"    بنكيران .. القرار الملكي لا يدخل ضمن الأمور الدينية وإنما رفع للحرج    توقيف شخص متورط في سرقة وكالة لتحويل الأموال بطنجة تحت التهديد    عمر الهلالي يعرب عن رغبته في تمثيل المنتخب المغربي    فتح باب الترشيح للاستفادة من دعم مشاريع النشر والكتاب هذا العام    البنك الدولي يكرّم لبنى غالب بجائزة القيادة في النوع الاجتماعي    انتقادات لاذعة تطال نيمار لمشاركته في "كرنفال ريو"    أمانديس تُحيي اليوم العالمي لحقوق المرأة بأنشطة مميزة في طنجة وتطوان    عمليات ‬واسعة ‬للتوسيع ‬والتحسينات ‬بمطارات ‬المغرب ‬بهدف ‬بلوغ ‬80 ‬مليون ‬مسافر ‬    توقعات أحوال الطقس ليوم الثلاثاء    الوداد الرياضي يستعد لمواجهة اتحاد طنجة بغيابات وازنة    كيف يؤثر الصيام في رمضان على الصحة ويحسنها؟    ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا.. باريس سان جرمان يسعى للثأر من ليفربول    كاف تفتح طلبات البث التليفزيوني لبطولاتها    تقرير: أسعار العقارات سجلت استقرارا خلال العام الماضي    غواتيمالا.. إعلان حالة التأهب وإجلاء المئات إثر ثوران بركان فويغو    الصين تختم اجتماعات القيادة السنوية    مهنيو قطاع سيارات الأجرة يطالبون الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بوقف بث إعلان شركة "إندرايف"    تناول السمك يتيح تطور الشخصية الاجتماعية عند الأطفال    الجزائر بين العزلة الدولية وسراب النفوذ أوحينما لا تكفي الأموال لصناعة التحالفات    حتى ‬لا ‬تبقى ‬الخطة ‬العربية ‬الإسلامية ‬لإعمار ‬غزة ‬معطلة ‬    قمة ‬جزائرية ‬تونسية ‬ليبية ‬لنسف ‬القمة ‬العربية ‬الطارئة ‬في ‬القاهرة    الصين: متوسط العمر بالبلاد بلغ 79 عاما في 2024 (مسؤول)    تنظيم الملتقى الأول ل''رمضانيات السماع و المديح للجديدة    الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.. من الشعارات الانتخابية إلى محكّ السلطة    شخصيات عربية وإفريقية وأوروبية بارزة تنعى الراحل محمدا بن عيسى    مركز في بني ملال يحتفل بالمرأة    غضب شعبي يجتاح سوقا بصفرو    الجديدي يفرض التعادل على الحسنية    دليل جديد يتوخى توعية المغاربة بمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب    ‬"وترة" يدخل دور العرض بعد رمضان    برعاية إبراهيم دياز .. أورنج المغرب تطلق برنامج Orange Koora Talents    جماعة بني بوعياش تنظم ورشة لإعداد برنامج عمل الانفتاح بحضور فعاليات مدنية ومؤسساتية    بعثة تجارية ألمانية لتعزيز التعاون الاقتصادي في قطاع الفواكه والخضروات    ملخص كتاب الإرث الرقمي -مقاربة تشريعي قضائية فقهية- للدكتور جمال الخمار    "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ..؟" !!(1)    دراسة: الكوابيس علامة مبكرة لخطر الإصابة بالخرف    الأمازِيغ أخْوالٌ لأئِمّة أهْلِ البيْت    القول الفصل فيما يقال في عقوبة الإعدام عقلا وشرعا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأمراض النفسية بين التشخيص وخصوصية العلاج عند الغزالي
نشر في تطوان بلوس يوم 05 - 06 - 2020


شعبة الدراسات الإسلامية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
من لم يعرف نفسه لم يعرف غيره ومن لم يعرف غيره استهان به واستحقره واصطدم معه أو صادمه ودهسه،ومن كان هذا دأبه فهو العنصري بامتياز.هذا هو التعريف المختصر للعنصرية وأسبابها ودوافعها ومساوئها ومظاهرها ،لأنها مجمع للغرور والعجب والكبر والجهل والظلم والإقصاء …وهذه كلها أمراض نفسية ذات مظاهر خلقية سلوكية سلبية تحتاج إلى مراجعة وعلاج جذري قد يبدأ من ملاحظة الأنا فالأنت ثم الأنتم وهم…
والعنصرية تبتدئ من نرجسية المرء مع نفسه ومرآته ثم استكباره على زوجه وتفرع ذلك في ذريته وانتقال الحال إلى مجاوره ،من حيث الكم والنوع والطول والقصر واللون والمظهر واللغة والتعبير…
وعلى هذا فيعتبر الغزالي كمفكر وطبيب أن الرذيلة المؤدية للعنصرية بأنواعها مرض نفسي،وهي عنده تخضع لقواعد وأسباب ثابتة تمثل كليات جملية ،كما أنها تنتج عن مؤثرات كثيرة ظرفية ذاتية وخارجية.
من هنا فسيكون من اللازم معالجة هذا المرض من كل جوانبه سواء الكلية أو الجزئية،وهذا ما سيسلكه في دراسته الأخلاقية عموما ،منتهجا طريقتين في التحليل والتعليل هما:

أ) التحليل الجملي للأمراض النفسية وظواهرها
فقد عمد في هذا المسلك إلى وضع قواعد ثابتة مع تهيئ أدوات لازمة لعلاج شتى الأمراض وذلك على شكل جملي كما يقول:"ونحن نشير في هذا الكتاب-أي الربع الثالث من الإحياء- إلى جمل من أمراض القلوب وكيفية القول في معالجتها على الجملة من غير تفصيل لعلاج خصوص الأمراض ،فإن ذلك يأتي في بقية الكتب من هذا الربع ،وغرضنا الآن النظر الكلي في تهذيب الأخلاق وتمهيد مناهجها،ونحن نذكر ذلك ونجعل علاج البدن مثالا له ليقرب من الأفهام دركه"[1].
فكان من بين خصائص هذا المنهج الجملي في التحليل عنده هو ذلك القياس المتمثل في الربط بين الطب الروحاني والطب الجسماني وقياس أحوال النفس على أحوال الجسد.
بحيث هنا ستظهر المطابقة بينه وابن مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق،لكن الغزالي سيفصل هذا القياس ويشعبه أكثر من سابقه، وذلك بمزجه بين آرائه وآراء ابن سينا النفسية مع تتبع جزئيات ووظائف الأعضاء الحسية عند الإنسان ومقارنتها جزء بجزء مع الحركات النفسية ذات الخاصية الروحانية .
فلقد مثل عنصر الغريزة في العرض الجملي عنده أحد أهم المحاور الرئيسية التي تدور عليها الدراسة النفسية والأخلاقية…
بحيث قد خصص لهذا الموضوع كتابا في الإحياء سماه "كتاب كسر الشهوتين"يعني بهما: شهوة الطعام وشهوة النكاح،أي غريزة البقاء وغريزة النوع،الذين سيجعل منهما محورا رئيسيا في تحليلاته النفسية والأخلاقية ،في حين سيحصر أصل الأمراض النفسية والخلقية في عنصر التخمة والإكثار من الأكل،الشيء الذي سيتولد عنه ضرورة التحريك الجامح للرغبة الجنسية،بعده ستتسلسل عن هاتين الغريزتين عند الإفراط في الاستجابة لهما مجمل الرذائل النفسية، و المشخصة أساسا في إشباع رغبة المنافسة والنزعة إلى السيطرة و الامتلاك،كما سنراه في حينه.
من هنا يرى وجوب توضيح أساليب وآليات كسر شهوة البطن ابتداء وذلك" عن طريق المجاهدة لها والتنبيه على فضلها-أي المجاهدة-ترغيبا فيها،وكذلك شرح شهوة الفرج فإنها تابعة لها[2]".
بحيث أن هذا الموضوع سيمثل مادة أساسية في المنهج التحليلي عنده، كما سيلمس له حضور في شتى المواضيع الخاصة بالأمراض الخلقية وعلاجها، ومن ثم كان التركيز عليها دراسة من باب القواعد الجملية.

ب) التحليل التفصيلي والمتابعة الميدانية
يتمثل منهج التحليل التفصيلي في هذا التشخيص العلمي للأمراض الخلقية على اختلاف أسبابها ومظاهرها،منها الرذائل ذات الأصل النفسي المحض ومنها ذات الدافع الشهوي الغريزي …في حين سيسلك في دراسته للأمراض النفسية والأخلاقية بالتفصيل منهجا موحدا يخضع لتسلسل منتظم في الدراسة ،مع إعطاء الأسبقية في العرض والاستدلال دائما للنصوص الدينية التي تدل على حكم من الأحكام الخلقية .
يقول مثلا في ذم الغيبة:"فلنذكر أولا مذمة الغيبة وما ورد فيها من شواهد الشرع…"ثم بعد ذلك يتطرق إلى تعريفها وحدها اعتمادا على ما تضمنته النصوص التي استشهد بها ،فيقول:"اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه أو بلغه سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو في خلقه أو في فعله أو في قوله أو دينه أو في دنياه حتى ثوبه وداره ودابته"[3].
فكل هذه الأبعاد التي تمتد إليها الغيبة لم يكن موردها اعتباطا أو بمجرد قياس ذهني ،بل إنه اعتمد النصوص التي عرضها في بداية الحديث عن الرذيلة محل الدرس،وبهذا فستكون دراسته الخلقية دراسة تفسيرية للنصوص في أغلب الأحيان ،لكنه صاغها في أسلوبه الخاص والمتسلسل في تراكيبه بحسب طبيعة الموضوع المعالج له،حتى قد يخيل للشخص أنه ابتدع شيئا جديدا في المفاهيم الخلقية أو النفسية،لكنه في الحقيقة لا يخرج عن النصوص المعتمدة لديه .
هذا المنهج قد يبدو أكثر حضورا في كتابه :الأربعين في أصول الدين خاصة،إذ أنه قد كان بمثابة تلخيص لكتاب الإحياء ،بسبب أنه سيعمل على اختصار النصوص التي اعتمدها فيه مع التقليص من مستوى التوضيحات التي سلكها في الإحياء عموما،كما سيقتصر على الأهم من أفكاره النفسية والأخلاقية وذلك بأسلوب وجيز جدا مع إشارة بالرجوع في التفصيلات إلى المواضيع المطابقة فيه.
فيقول مثلا في موضوع شره الكلام :"اعلم أن للسان عشرين آفة شرحناها في كتب آفات اللسان ويطول ذكرها،ويكفيك العمل بأية واحدة"[4].
إذ في قوله:"يكفيك العمل بأية واحدة"دليل على أن التفاصيل التي تضمنتها مواضيع الإحياء كانت للتبيين وزيادة إيضاح للتشخيص المرضي وعلاجاته، تبعا لما أوردناه من الحديث عن الغاية من تنوع الاقتباسات لديه،وإلا فكتاب الأربعين في أصول الدين فيه الغنية لمن يريد أن يعرف أمهات الفضائل والرذائل.
أما الخطوة التالية بعد التعريف الكامل للموضوع فإنها ستنصب على دراسة الأشكال التي تتلون بها هذه الرذيلة أو تلك،إذ هناك من الأعمال ما يقوم بها الإنسان بأعضاء مختلفة لكنها تهدف إلى غاية واحدة،خاصة تلك الرذائل التي لها علاقة بالتواصل الإنساني وذات الأبعاد الاجتماعية ؛كالغيبة مثلا،إذ يرى فيها:"أن الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه،فالتعريض به كالتصريح،والفعل فيه كالقول والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة ولكل ما يفهم المقصود فهو داخل الغيبة"[5].
بعد هذا التشخيص الموضوعي ينتقل إلى التشخيص الذاتي وذلك عن طريق التحليل النفسي والغوص في دراسة الدوافع الكامنة وراء هذا المرض الخلقي أو ذاك،إلا أن تشخيص المرض يختلف باختلاف الأشخاص المعرضين له ،فهناك العامة والعلماء والخاصة،وكل واحد من هؤلاء له بواعث متميزة بحسب ظروفه وبيئته وأحوال معيشته…
فعند ذكر البواعث يلجأ إلى تحديد العلاج،ويقسمه دائما إلى جملي وتفصيلي كعنصر من عناصر التحليل لديه كما رينا.
كلا العلاجين يخضعهما إلى قاعدة واحدة هي المعالجة "بمعجون العلم والعمل، وإنما علاج كل علة بمضادة سببها"[6].
بعده يشرع في وصف العلاج وتعقب أسباب المرض الجزئية وعلاجها بمضادها،الواحدة تلو الأخرى حتى يستقرئ أقصى ما يمكن من الحالات الممكن أن يظهر بها هذا المرض أو ذاك.
إذ الملاحظ في دراسته هاته غياب الاستشهاد بالوقائع المعاصرة له أو إظهار ذاتيته فيها رغم أنه كان ذا تجارب عملية في حياته اليومية،فلا نكاد نلمسه يتحدث عن نفسه صراحة أو يعبر عن أخلاقه الشخصية أو يعرض بالذكر لصديق أو معاصر له أو يستدل من خلاله ببعض استنتاجاته الفكرية كما فعل مثلا في كتابه المنقذ من الضلال،بل إن المادة العلمية ذات المعتمد النصي والقياس المنطقي كانت السمة الغالبة على دراسته في جل أطوارها،وهذا لا يعني أنه لم يكن ميدانيا بالمرة في دراساته النفسية والأخلاقية هاته! .
كلا ! فإن مجرد إلقاء نظرة سريعة على بعض المواضيع التي تضمنها كتابه الإحياء وغيره من الكتب تعطي لنا انطباعا بأنه كان رجلا واعيا بدقائق أهل زمانه وبأخلاقهم على وجه التحديد،والدليل على هذا؛ كثرة الأمثلة التي أوردها بشكل معمم وبصورة متخيلة واسعة التفرع والآفاق شملت الحديث عن شتى مرافق الحياة الاجتماعية ،فقد يتحدث عن السياسيين والعلماء والحرفيين وبائعي الخبز والحدادين وأهل الحياكة والفلاحة…

ج – تحقيق العلاج بشرط الاندماج
هذا التنوع في الاستعراض يدلنا بوضوح على مدى اجتماعية الغزالي واندماجه مع محيطه اندماجا فاعلا وعمليا وعن استبصار ،لحد أنه كان يحاول استخلاص النوايا من خلال التوجهات العلمية والتخصصية لبعض العلماء في عصره ثم تحليلها بواقعية وموضوعية صارمة وجازمة[7].
فهو قبل أن يقوم بحملته الإصلاحية التي تلت تأليفه للإحياء وغيره من الكتب الموالية يذكر أنه قد أجرى استجوابا ميدانيا لكثير من الشرائح الاجتماعية في زمانه كما يحكي نفسه:"فإني قد تتبعت آحاد الخلق أسأل من يقصر منهم في متابعة الشرع وأسأله عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسره،وقلت له :مالك تقصر فيها؟ فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا فهذه حماقة فإنك لا تبيع الاثنين بالواحد،فكيف تبيع ما لانهاية له بأيام معدودة ،وإن كنت لا تؤمن فأنت كافر فدبر نفسك في طلب الإيمان وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطنا وهو سبب جرأتك ظاهرا،وإن كنت لا تصرح به تجملا بالإيمان وتشرفا بذكر الشرع "[8].
كل هذا إن دل على شيء فإنما يبين أن مكتسباته في الميادين النفسية والأخلاقية كانت مغذاة بمعطيات ميدانية لها أصول واقعية،كما أن رقعة الخيال فيها واسعة؛ وهي تمتاز بالتحليل المنطقي الجاد وبناء أصل على صل وتفريعه إلى أصول وهكذا،حتى إنه يكاد يبني شبكة فكرية أخلاقية لها بنية موحدة ومتراصة،قد يلاحظ بينها الانسجام التام والتطابق العقلي المقبول نظريا .
إذ أجمل ما فيها هو ذاك التقسيم على شكل تشجيري بالسماح لموضوع ما بأن يتسع إلى أبعاد قد لا يحسب لها حسابها منذ الانطلاقة الأولى عند التحليل…
فعلى سبيل المثال حينما يتحدث عن آفة اللسان يقول:"فقد قال الله تعالى:"ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر،وهو أن الكلام أربعة أقسام:قسم هو ضرر محض وقسم هو نفع محض وقسم فيه ضرر ومنفعة وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة،أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر،وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران ،فلا يبقى إلا القسم الرابع ،فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع،وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء ودقائق آفات اللسان والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطرا،ومن عرف دقائق آفات اللسان على ما سنذكره علم يقينا أن ما ذكره صلى الله عله وسلم هو فصل الخطاب حيث قال:"من صمت نجا"[9].
فلو ترك الغزالي هنا العنان لفكره بالاسترسال على هذا القسيم فإنه سوف يربط هذا الموضوع بكل المواضيع الأخلاقية الأخرى من دون أن يشعر القارئ بوجود طفرة أو فجوة وتكلف بينها،وهذه ميزة منهجية لديه ومقصودة،إذ يرى أن العلوم لها ارتباط بنيوي ببعضها البعض،ومن هذا المفهوم سيعمد إلى تطبيق فكرته البنيوية هاته على العلم الواحد في نفسه،وخاصة علم النفس والأخلاق.
من هذا المفهوم أيضا استطاع أن يمزج بين علم الكلام وعلم الفقه وعلم الأخلاق أو التصوف مزجا رائعا،بحيث لم يهمل جانبا على حساب آخر؛ وخاصة حينما تطرق للعلاج النفسي والأخلاقي ،كما كان هذا المزج شديد الوضوح ما بين مجال الفلسفة الخلقية ومجال الإلهيات،حسب رأي بعض الباحثين[10].
يقول المستشرق الفرنسي كراديفو واصفا نوع الدراسة الأخلاقية قبله بأنها: كانت مختلطة المواضيع وغير مرتبة،بعد ذلك "ظهر حجة الإسلام فجأة مرة واحدة كأخلاقي جد كبير،متمكن تماما من مادته ؛أستاذ فيها ونفسي حاد مرهف، يعبر عما يرى بغزارة وجمال وحرارة ودقة بلغت الغاية"[11].
فجملة القول حول دافعه إلى تنويع مناهج دراسته النفسية أو الأخلاقية على شكل إجمال وتفصيل هو أنه كان يمثل عصره أصدق تمثيل،فلقد كتب أخلاقياته للمجتمع الإسلامي الفاضل الذي يؤمن به ويدعو إليه ومن وضع له برنامجا أخلاقيا ملائما ومتكاملا ومرتكزا على أسس دينية وطاعات روحية وقلبية[12].
يقول أبو الحسن الندوي عن هذا الاستنتاج:"عرف الغزالي أوضاع المجتمع قبل أن يؤلف كتاب الإحياء فنظر إلى المجتمع (ما به)من انحراف وابتعاد عن الجادة، وتناوله طبقة طبقة فذكر أمراضها ومغالطاتها وميز بين المقاصد والغايات والوسائل والآلات …"[13].
فكتعضيد وموافقة لوجهات النظر هذه يمكن القول بأنه: كان رجلا يعيش أحداث زمانه بكل جزئياتها ومظاهرها؛بعقله وقلبه وجسده معا،ولا أدل على ذلك من رسائله التي كان يبعثها إلى ولاة عصره يعبر فيها عن وعيه بالوضع الاجتماعي السائد آنذاك في المنطقة التي كان يقطنها،ومواساته لآلام الفقراء هناك .
يقول في إحداها مخاطبا أحد الولاة السلجوقيين:"اعلم أن هذه المدينة أشرفت على الخراب بسبب الظلم والقحط،وحينما كنت في أسفرين ودامغان كان يخافك الناس! فالدهاقين كانوا يبيعون الحصاد والظالمون كانوا يعتذرون للمظلومين وحسن الحال.بعد وصولك إلى هنا زال عنهم الخوف والروع ،فالدهاقين والخبازون أغلقوا الدكاكين واحتكروا الغلال وتجاسر الظالمون وقصدوا في الليل بعض الدكاكين والبيوت للسرقة…"[14]
على ذكر الخبازين وغيرهم من التجار والحرفيين سنجده كما سبقت الإشارة يعرض لهم بالحديث في دراساته الأخلاقية وذلك على شكل أمثلة اجتماعية وأخلاقية كما يقول في هذا الموضوع:"قد قال قائلون حد البخل منع الواجب، فكل من أدى ما يجب عليه فليس ببخيل؛ وهذا غير كاف ،فإن من يرد اللحم إلى العصاب والخبز إلى الخباز بنقصان حبة أو نصف حبة فإنه يعد بخيلا…"[15].
ففي هذا ملاحظة اجتماعية جيدة قلما يتفطن لها الباحث إلا إذا كان بحثه ميدانيا وعن ملاحظة مباشرة للأوضاع العامة !.
هذه إذن هي عادة الغزالي في عرضه للأمثلة المعاصرة له،فهو يطرحها لا بصيغة إخبارية وإنما يصوغها بشكل إنشائي،مبني على تحليلات عقلية دقيقة علها تكتسب الثبات والإقناع ،مع قابلية التطبيق عبر الأزمان والظروف المختلفة ،لأنها أحكام نابعة من الداخل وليست من الخارج،وكل ما هو داخلي وصادق فيشترك الناس كلهم في استشعاره وتصوره عبر الأقطار والشعوب وكذلك القرون والأزمان؛لأنه يمثل جوهر بنيتهم النفسية.فهل من توعية بمثل هذا المنطق لإنقاذ البشرية من ويلات العنصرية وفيروسها الأسوأ والأفتك من كورونا وأخواتها؟نتمنى المبادرة إلى ذلك "والله من ورائهم محيط".

[1] الغزالي :إحياء علوم الدين ج3ص42
[2] نفس ج3ص69
[3] نفس ج3 ص123
[4] الغزالي:الأربعين في أصول الدين ،منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت ص83
[5] الغزالي :إحياء علوم الدين ج3ص126
[6] نفس ج3ص126
[7] نفس ج1ص37
[8] الغزالي:المنقذ من الضلال ص60
[9] الغزالي:إحياء علوم الدين ج3ص96
[10] الدكتور عاطف العراقي:الغزالي وفلسفته الخلقية،مجلة العربي العدد211 يونيو1976 ص103
[11] الدكتور محمد يوسف:فلسفة الأخلاق في الإسلام وصلاتها بالفلسفة الإغريقية،مؤسسة الخانجي،القاهرة ط3ص214
[12] زكي مبارك:الأخلاق عند الغزالي ص24
[13] أبو الحسن الندوي :رجال الفكر والدعوة، دمشق مطبعة جامعة دمشق ط1ص1991
[14] الغزالي:فضائل الأنام من رسائل حجة الإسلام الغزالي ترجمة الدكتور نور الدين آل علي ،الدار التونسية ص68-69
[15] الغزالي:إحياء علوم الدين ج3ص224


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.