افتتاح الحديث عن اجتماع فنين جميلين من قبيل الموسيقى والسينما من شأنه أن يستثير في الذهن عبارات تقنية جامعة بدورها، من مثل "الموسيقى التصويرية"، و"الأفلام الغنائية". كما من شأنه أن يستدعي عناوين أفلام خصصت لتصوير حياة موسيقيين أمثال بيتهوفن Beethoven في فيلم "Copying Beethoven"، وموزارMozart في فيلم "Amadeus"، وفيفالدي Vivaldi في فيلم "Vivaldi un príncipe en Venecia"، وسيد درويش في فيلم "سيد درويش". الإشكال باختصار هو محاولة رصد علاقة الموسيقى بالسينما، أو انصهار ثنائية الصورة والصوت فيما بينهما؛ هذان المكونان اللذان يتشكلان في مجال السينما في قوالب خصبة يذوبان فيها بكل أشكالهما وعناصرهما التعبيرية والفنية. قد يكون الانصهار أقوى وأجلى عندما يكون موضوع الفيلم موسيقياً محضاً. عند ذلك لا يظل التعبير الصوتي في الفيلم مقتصرا على تلك المقاطع النغمية المصاحبة والمتجسدة في الموسيقى التصويرية ل "موسيقى الخلفية" أو "موسيقى الحدث" أو "موسيقى النهاية"، وإنما يمتد الأمر إلى الاهتمام بالموسيقى بشكل قوي وإلى استلهام موضوعاتها بعمق، والغوض في قضاياها الفنية بدرجة قصوى. ومن بين الأشرطة المغربية التي وظفت بصورة كثيفة الموسيقى من بدايتها إلى نهايتها فيلم "السمفونية المغربية La symphonie Marocaine" إنتاج سنة 2005. هذا العمل لا يتميز بموسيقاه التصويرية وأفكاره الموسيقية فحسب، وإنما بطاقمه الفني المعتمد أيضا. مخرج الفيلم هو كمال كمال ذو التكوين الموسيقي. وبطل الفيلم يونس ميكري موسيقي ذو تاريخ طويل وصاحب أغاني معروفة مثل "ليلي طويل" و"لن يسمح قلبي"، ينتمي أيضاً إلى عائلة موسيقية ذائعة الصيت. يحكي فيلم "السمفونية المغربية" قصة "حميد" الذي سعى جاهداً إلى أن تُسمع على أرض الواقع سيمفونية صديقه "الأستاذ كافي". أبطال الفيلم أغلبهم من فئة معوزة وفقيرة، يعيشون في عربات قطار قديمة، تكفلوا بالتدريب على السمفونية وعزفها رغم غياب الآلات الموسيقية والعازفين الضروريين كي يصاحبوهم في مهمتهم الفنية. في أجواء تلك الظروف الاجتماعية الصعبة والمريرة جرت مختلف الأحداث، لتنتهي القصة في خاتمة المطاف بتحقق الحلم وعزف السمفونية. وبما أن النمط الفني الذي اختاره المخرج ينتمي إلى عالم الموسيقى الكلاسية فقد جاء بناء العمل السينمائي كلاسياً معتمدا بدوره على بداية وعقدة ونهاية. وقد انسجمت تلك البنية الكلاسية مع مختلف توجهات الفيلم. البنية الثلاثية هي ذاتها حركات السوناتة الثلاث؛ ذلك النوع الموسيقي الذي كان قد حلم "حميد" بتأليفه لكن حلمه لم يتحقق بعد أن جرته الحياة إلى تعقيدات أخرى. وهي أيضاً الضربات الثلاث لإيقاع الفالس الذي عُزف في الفيلم في مشاهد متنوعة. كما أن هذا الإيقاع ذاته شكل مقاطع مهمة في العمل السيمفوني الذي سعى أبطال الفيلم جاهدين إلى عزفه وعرضه أمام الجمهور. أسئلة وإشكالات موسيقية عَكَسَ موضوعُ الفيلم بصفة عامة حلم طائفة من الموسيقيين المغاربة. هؤلاء الذين طمحوا إلى ممارسة نمط موسيقي صعب للغاية هو الموسيقى الكلاسية. إنها فئة واجهت صعوبات على مستويات شتى: إعلامياً، وتكويناً، وآلياً، وجماهيرياً. ولعل أول سؤال قد يتبادر إلى ذهن مشاهد فيلم "السمفونية المغربية" هو: هل سيدرك المشاهد المغربي العادي دلالات المعجم الموظف في الفيلم الذي يتطلب درجة معينة من الثقافة الفنية؟ هل سيفهم مصطلحات من قبيل: السوناطة La Sonate، ورويال ألبرت هول Royal Albert Hall، والنوطات Les Notes، والأوركسترا الفيلارمونية L'orchestre Philharmonique، والمدرج La Portée، والعزف المنفرد .Solo إلى غيرها من المصطلحات الموسيقية المتخصصة؟. ويمكن أن نضيف سؤالاً ثانياً فنقول: هل يوجد في المغرب بكثرة عازفون متخصصون إلى درجة إتقانهم عزف نوع بوليفوني ضخم من قبيل السمفونية؟ لعل مشاهد الفيلم أوحت أن عزف آلة موسيقية بإتقان هو أمر في متناول أغلب الناس. لكن الحقيقة في الواقع الفني عكس ذلك حيث يكشف للعيان مشاكل عديدة ذات صلة بممارسة الموسيقى الكلاسية في المغرب. أضف إلى كل ذلك وجود بعض المؤلفين الموسيقيين الكلاسيين الذين يفتقرون إلى من سيعزف أعمالهم. لعل مؤلفاتهم تعزف في الخارج أكثر مما تعزف في المغرب. وأخيراً نتساءل: هل من السهل عزف سيمفونية في بلدنا وبنفس الطريقة التي عرضها الفيلم؟ الأكيد أن الجواب سيكون لا. إنها مهمة فنية عسيرة هي الأخرى. ذلك أن وسطنا الفني لا يكاد يعرف حفلات أو حتى أمسيات للعزف المنفرد فما بالكم بعزف سيمفونية! لذلك يظل عزف هذا النوع الموسيقي الكلاسي المعقد في تقنياته، وتعابيره النغمية، وتداخل أصواته، وتشعب معانيه، حلماً يراود باستمرار عدداً من المؤلفين الموسيقيين المغاربة. السمفونية .. لغة الحياة والموت في ظل أجواء تلك الإشكالات الموسيقية الكثيرة التي يواجهها عدد من الموسيقيين المغاربة من خلال واقعهم الفني، برزت في الفيلم وبشكل ملح ومتكرر لازمة "الموت" بوصفه عنصراً يعبر عن معاناة التهميش والفقر، وعن عدم قدرة وصول أصوات بعض من الموسيقيين إلى الجمهور رغم كفاءتهم وجديتهم وعمق رؤيتهم الفنية. فمنذ بداية الفيلم إلي نهايته ذُكر "الموت" أكثر من مرة؛ فقد توفي أحد الموسيقيين "بالحْسن" في بداية الفيلم وكانت نهاية حياته مأساوية في صحبة الفقر والفئران وآلته الموسيقية. ثم كانت هناك لقطات فكرتْ خلالها عازفة الفلوت "حبيبة" في الانتحار فوق سكة القطار وقد سئمت من محاولات عزف السمفونية فذهبت تبحث عن ملاذ فني آخر ليكون الفشل في انتظارها. ثم تأتي مشاهد معاينة "حميد" لأشلاء الجنود الأموات المحترقة في حرب لبنان. ومشاهد تحكي عن موت أم "أحلام" عازفة الأكورديون التي أتى بها الأستاذ كافي إلى عربة "حميد" بعد أن توفيت أمها جراء سكتة قلبية كان "حميد" سبباً فيها. وأخيرا يختتم الفيلم بمشاهد الموت أيضاً حيث انتهت حياة البطل "حميد" وحلم عزف السمفونية قد تحقق في نهاية المطاف. ونشير أيضاً إلى أن ثلاثاً من شخصيات الفيلم كانوا أصحاب عاهات؛ ف"حميد" فقد يده في الحرب، والمايسترو "كافي" شخصية عرجاء، ثم "حسن" الأبكم، وهو عازف على آلة ساكسوفون. وعلى الرغم من تلك العاهات الجسدية، وبالرغم أيضاً من طغيان فكرة "الموت" على كثير من مشاهد الفيلم بوصفه مصيراً نهائياً وطبيعياً في هذه الحياة، لا نعدم في هذا العمل تصويراً لمشاعر وأجواء الحب، والحلم، والأمل والطموح. عديد من مشاهد الفيلم صورت ذلك، من بينها ذاك المشهد الجميل الذي اجتمعت شخصياته في ليلة هادئة وقد ركزت عليهم عدسة الكاميرا فصورت حركاتهم البطيئة الموحية بمظاهر الحب والسلام. أما ظلمة الليلة فقد أضاءتها مدرجات الموسيقى وعلاماتها ومفاتيحها. إنها صورة جسدت نور الأمل بغد أفضل يتخطى التهميش والفقر والمعاناة. "البشر هم نوطات السمفونية" كما فال "حميد"، وفيهم تتوافر قيم المحبة والجمال. وفي تلك المرحلة نصل إلى معنى السمفونية في الفيلم الذي يقابل معنى الحياة بمختلف تشعباتها وتناقضاتها. فالسمفونية نمط موسيقي مركب متعدد الأصوات والتآلفات والتناقضات أيضاً، يولد من فكر فنان عميق الأفكار والإحساس. إنها أصوات إنسانية وكونية تصور تفاصيل حياتية غاية في الدقة. وعموماً تبقى الموسيقى في نهاية المطاف بالنسبة إلى مؤلفيها إذا سُمعت وتم الاهتمام بها، عملاً جميلاً يدركون من خلاله أنهم أنجزوا أشياء في حياتهم ستخلدهم بعد مماتهم، وأن حياتهم لم تذهب سدى، ولن تنتهي كما انتهت حياة "بالحسن" نهايتها المأساوية في أولى لقطات الفيلم. إن السمفونية كما يقول "حميد" "تبقى ذكرى جميلة في قلوب الناس، وتجعلهم يحسون أن في البشر أملاً كبيراً". بين الصوت والصورة لاشك في أن مشاهد الفيلم المفعمة بالتهميش، والفقر، والموت، قد رُسمت في أحايين عديدة بريشة اختارت ألواناً قاتمة. فكثير من مشاهد الفيلم تميل إلى السواد وما ينيرها إلا أضواء خافتة للشموع، أو فتيل نار متقدة ليلاً. لكن انبعاث الموسيقى بين الحين والآخر مسح تلك الصور الحزينة الموجهة إلى العين مباشرة؛ سواء تلك النغمات التي تسيطر على المشهد، أم تلك التي تظل خافتة وراء حديث شخصيات الفيلم، أو حتى تلك المقاطع الموسيقية التي عزفها أبطال الفيلم مباشرة. وبما أن الموسيقى أنطقت الصورة في أحايين كثيرة فقد كانت خير لغة لشخصية "حسن" الأبكم التي تواصلت مع الناس عبر الحركات. وربما كانت اللغة الموسيقية هي اللغة المحببة إليها، فهي لا تفتأ عن العزف بين الحين والآخر، متكلفة بتعليم عازف آخر بعض قواعد الموسيقى التي كان يجهلها. سافرت "السمفونية المغربية" بين أنماط موسيقية عديدة عارضة ألواناً من الموسيقى الشعبية، والغرناطية، والعصرية، والكلاسية. إنه التعدد النغمي الذي يعيشه المغرب فيمنحه ثراءاً وتراثاً فنياً زاخراً ومتجذراً. وهو أيضاً الصورة الجامعة لعنوان الشريط الذي يشمل مصطلحاً غربياً هو "السمفونية". ثم تأتي بعده كلمة أخرى تحاول أن تُضفي عليه طابعاً مغربياً وتربطه بموضع جغرافي محدد هو المغرب. لكن الأكيد أن الموسيقى الغالبة على مختلف مشاهد الفيلم تمتح معينها من نمط "الموسيقى الكلاسية" بآلاتها الغربية المختلفة، وطريقة غنائها، وطقوسها النغمية. هي موسيقى تتراوح بين المقاطع الهادئة والحالمة، وبين تلك التي تصول وتجول لتعبر عن دلالات الغضب والشجار وغيرهما. ومن بين المشاهد التي تلتحم فيها الموسيقى مع الصورة ذاك الذي تُعزف فيه السمفونية، وحينما يأتي دور "أحلام" لأداء مقطعها المنفرد على آلة الأوكرديون تفاجأ بأنه معطوب فتجد نفسها في مأزق حرج أمام الجمهور. وتقابل هذه اللحظة الموسيقية الحرجة لحظة احتضار "حميد" وموته. ويمكن القول إن توقف الأوكرديون عن العمل هو إيحاء بموت "حميد" خاصة أنه كان عازفاً على الآلة ذاتها، وكانت تربطه مع "أحلام" علاقة حب. إضافة إلى أنه مؤلف المقطع الذي كانت تعزفه أحلام. غير أن التحام الصوت والصورة لم يتوقف عند هذا الحد. فرؤية الفيلم التي تنحو إلى "الأمل" كما سبقت الإشارة تحضر حيث تنقذ "أحلام" الموقف وتؤدي المقطع بصوتها وبتقنيات كلاسية محض، دلالة على امتداد الحياة، واستمرارها في إنجاح السمفونية وتحقيق الطموح والأمل الصعب الذي سعى إليه الجميع. مشهد آخر تمتزج فيه الموسيقى والصورة إلى حد بعيد وتنضاف إليهما الكلمة لتعطي امتدادات أخرى للموسيقى الأوركسترالية الحالمة. أما الصورة فيه فتنحو إلى الحلم أيضاً وتطغى عليها إضاءة زرقاء. نقصد به ذلك المشهد الذي يركز على شخصيات الفيلم وهي تسبح في أعماق البحر كأنها تبتعد عن ضجيج الأرض وتبحث عن أماكن هادئة يسودها الاطمئنان والحب. ويسترسل حميد بصوته في هذا المشهد متحدثا عن غنى جمال الإنسان والمحبة التي تسكن قلبه. مسك الختام فيلم "السمفونية المغربية" عمل متميز في تاريخ السينما المغربية. يرجع ذلك أساساً إلى تطرقه لموضوع غير مألوف في الأفلام المغربية التي سبق أن شاهدناها، كما أنه يركز على شريحة من الموسيقيين تستحق فعلاً أن تسلط على قضاياها ومشاكلها الأضواء الكاشفة. ومن الواضح جداً أن الدلالات الموسيقية البئيسة للشريط يمكن أن تعمم حتى على سائر الفنون والآداب كما تمارس عندنا بأساليب متعثرة. ونستطيع أن نقول في نهاية المطاف إن موضوعات الموسيقى والموسيقيين في السينما المغربية بدأت تبحث لنفسها عن مكان جنب الموضوعات الأخرى، وما فيلم "خربوشة..مايدوم حال" لمخرجه حميد الزوغي إلا واحد من تلك الأفلام الموسيقية المعاصرة المختلفة في قصتها وفضاءاتها عن فيلم "السمفونية المغربية".