حتى قبل أن يشدو الكمان في فضاء «دار الصويري»، كانت الريح المعاكسة، الشديدة الهبوب بمدينة الصويرة، وهي تعانق الموج، في الشط الممتد، قبالة الجزيرتين الصغيرتين، بما تبقى يظهر من أسوار سجنها القديم ومئذنة لا تزال مرتفعة صغيرة هناك،، كانت تلك الريح القوية وهي تعانق الموج، تترك الرذاذ الأبيض يصاعد في عنان السماء، كخط أبيض طويل، في ما يشبه عزفا آخر للريح فوق الماء. كما لو أنها تكتب في الفضاء الممتد، نوتاتها الموسيقية الخاصة. كانت الصويرة تعزف سمفونيتها الأخرى، سمفونية الحياة، تلك التي تكمل فيها النوارس الشدو والغناء مثل أي كورال يثقن التناغم مع صوت الريح وأنين التقائه مع الموج. كانت تلك موسيقى حياة، عزفتها المدينة بطبيعتها الخاصة، حتى قبل أن تفتتح الدورة 14 لمهرجان الموسيقى الكلاسيكية «ليزاليزي»، التي اعتادت أن تنظمها بدربة عالية جمعية «الصويرة موكادور»، تحت جبة ابن وفي للمدينة بشغف عاشق، أندري أزولاي (مستشار الملك الراحل الحسن الثاني ومستشار جلالة الملك محمد السادس)، وبإشراف من فنانة رفيعة السلوك والتكوين الفني العالي، «دينا بنسعيد»، المديرة الفنية للمهرجان. كانت الصويرة، تعزف أثرها الجديد هناك قبالة المحيط، وكان الخاطر، يكاد يسمع أصوات من عبروا هناك، يكاد يسمع صوت المجداف وهو يضرب في الماء، لقوارب قديمة تذهب وتجيئ بين الجزيرتين وشط المدينة، منذ الفنيقيين القدامى حتى حراس السجن في زمن غير بعيد. وتكاد تسمع سلاسل السجناء وهي تنزل في ماء الشط. وحين تجوس في أزقة المدينة، عبر «باب مراكش»، يصلك صوت «المحاضرية» الذين يتعلمون أبجديات الحرف وصوت الفقهاء الأساتذة الذين يوجهون مجداف التعلم والتلقي، حيث يجب له أن يذهب، فتتذكر أنه ليس اعتباطا أن اختير كشعار للدورة 14 للمهرجان عنوان: «التلميذ والأستاذ». هنا نحن قد جئنا لنتعلم جميعا من ألق العلاقة فنيا بين المتعلم والمعلم. ومن هنا ذلك التنضيض الجميل لفقرات الحفلات، على مدى الأيام الأربع (24/ 27 أبريل 2014)، الذي جعل الجمهور الغفير والنوعي، الذي تتبع كامل فقرات المهرجان بشغف خاص، وإنصات عميق، وأخلاق استماع عالية محترفة (حيث حتى التصفيق بموعد)، يتأمل «التلميذ» يبدع، بل يتسامى في الإبداع، قبل أن يأتي الدور مباشرة على الأستاذ ليكون في مستوى منافس أعلى من تلميذه. هنا يكون الإمتحان عاليا، لأنه امتحان الإنسان بإزاء الإنسان. قصدت ربما، امتحان المبدع بإزاء المبدع، لأنه حينها لا يكون في المشهد العام للإبداعية، فوق خشبة العرض المفتوحة للحياة، لا يكون التلميذ أو الأستاذ الذي يعزف ويستل الجمال من عمق الأعماق، من الوتر ومن أنين الريح، بل يكون المبدع الفنان وحده الواقف يعزف ما قدرته له أنامله وقوة عضلاته ودربته، وروحه العميقة الفرحة بالحياة. هنا، يكمن الدرس الكبير هذه الدورة لمهرجان الموسيقى الكلاسيكية «ليزاليزي» بالصويرة. بل إنها حتى حين كان، مثلا، الشاب الكوري الجنوبي «دامين كيم»، القادم من تجربة عزف رفيعة على الكمان ضمن الأوركسترا السمفونية لمدينة مارسيليا بفرنسا (من مواليد 22 فبراير 1990 بسيول)، هو الذي يجر وراءه تجربة موسيقية رفيعة، تشربها مع الألبان، من أمه المغنية ووالده الملحن. حين كان يعزف بحنو شفيف على آلة الكمان مصاحبا بالأساتذة الفطاحلة للجوق السمفوني المغربي، كان يغمض العينين ويرفع رأسه إلى العلا، في ما يشبه السؤال، لأن الأصوات التي كانت تكمل عزفه (اعتبرها هو في مكان ما مشوشة على اندماجه الروحي في جدبة العزف)، لم يدرك أنها فقط نوارس الصويرة كانت تحييه على طريقتها برقص أقدامها فوق سقف القاعة الرياضية المغطاة الكبيرة للمدينة. ولم يدرك هو ربما، القادم من ثقافة أخرى، أنه حتى النوارس فرحت به وبعزفه وشاركته على طريقتها فرحها بعلو كعبه الفني. وهي ذات النوارس التي ستظل تلعب ذات اللعبة، في ما يشبه هبوب الموج المتوالي في هذا الإتجاه أو ذاك من القاعة، شمالا وجنوبا، حين صعد العازف الفحل الرفيع الدربة، الأستاذ الفقيه، «باتريس فونتاناروزا» إلى خشبة الإبداع وسافر بالحضور إلى سماوات العزف الصاعد من عمق عمق عضلة الروح، وكانت تقاسيم وجه العازف أشبه بمن يعدو كلمترات دفعة واحدة في دقيقتين، كان الخياشم تنفتح فيه إلى حدها، وبؤبؤ العين يكاد يخرج من محجره، والشفتان مزمومتان والذراع صلبة تابثة. ولأنه لابد لعطر النساء أن يظل دوما فواحا، ينسل حيث يريد هو. فقد كان عزف «كلير ديزير» (لقبها فيه إحالة على معنى الصحراء، بكل الفتنة التي تصنعها الكثبان والعروق هناك)، والمديرة الفنية للمهرجان «دينا بنسعيد»، على آلة البيانو، معنى آخر للجمال الفني، حين يكاد يخرج بيتهوفن أو موتزارت أو فيفالدي، من بين حيطان المكان، وهن يعزفن سونتاتهم بحنو خاص. يكاد أولئك الفطاحلة يخرجون من العدم، من وراء غبش الأبد، ليصفقوا وينحنوا لتلك الأنامل، التي أعطت بعزفها لأنينهم لحظة الإبداع، معنى آخر من الجمال. فيما كانت السوبرانو «آكسيل فانيو» الإفريقية من دولة بنين، المزدادة بفرنسا، خريجة معاهدها الموسيقية بباريس، وهي مسنودة بعزف زميلتها اليابانية «توكيكو هوسويا»، الوحيدتان اللواتي جعلن قاعة دار الصويري تقف لهن في تصفيق طويل طويل. كان الصوت الصادح من حنجرة تلك الشابة الإفريقية السوداء، ربانيا، قويا، هائلا. بل، ربما أكثر من ذلك، هادئا، فهي بالكاد كانت تبدل مجهودا حتى يخرج من بين شفتيها كل تلك القوة في الأداء، كانت مثل من يتمشى في نزهة صوتية فقط، هادئة، واثقة، مثل من يمشي واثق الخطو في حديقة نرجس وأقحوان وخزامى، إلى الحد أنها كانت مستفزة بجمالها الفني، بالمعنى الرفيع للعبارة. هل يمكن إضافة شئ، حين نقول إن عائلة «بنعبد الله» الرباطية، بابنيها مروان ويانيس، عنوان اعتزاز فني مغربي رفيع، بمقاييس عالمية؟. أبدا، فالأمر أشبه كما يقول فقهاؤنا الأجلاء، بمن يفسر الماء بالماء، أو بمن يحاول عبثا أن يقنعنا أن «السماء فوقنا». إن مروان ويانيس حين يكلمان آلة البيانو، يجعلان اللحظة لحظة عاشقة بين العازف وآلته، وكم تكون هي مطواعة لينة حانية بين أصابعه، حين يجوس فيها بالعزف الرفيع، كي يستخرج منها فرح الرقص بالنوتات، تلك التي تلوي الريح في المدى، كي تخلق صوتا موسيقيا سبحان من منح للحياة أن تبدع كل ذلك الجمال، من خلال خلق العلاقة بين الريح والوتر. حينها فقط تدرك لم وقفت كبريات مسارح العالم ودور الأوبرا، وكبريات الفرق السمفونية لهؤلاء الشابين المغربيين العازفين على آلة البيانو، ولم منحا جوائز عالمية رفيعة (خاصة مروان). أليس السر كامنا في الأم، في الرحم التي أنجبتهما، في العائلة مرة أخرى، في مدرسة الحياة البكر الأولى والأبدية؟. أليس الأمر مرة أخرى مرتبط ب «التربية»، نعم ذلك المشروع الهائل الذي لا نزال نجر فيه أعطاب بلا عدد كبلد وكمجتمع؟. إن مروان ويانيس ودينا بنسعيد ولينا برادة ونور العيادي وصف طويل من مبدعينا الشباب الهائلين، الجميلين، ومن مختلف الشرائح الإجتماعية، يقدم لنا الدليل الفصل أن المادة الخام مغربيا متوفرة، أن الإنسان هائل هنا، لكن العطب في مجال التربية والتعليم، في مجال سؤال السياسة الثقافية كمشروع لبلد بكامله. ولم نحسم بعد (وكم هو خطير ذلك) ما الذي نريده كمشروع مجتمعي للإنسان المغربي الفرد؟. أليس بذلك إنما نترك الكرسي الفارغ ليملأه الآخرون بماضويتهم بسوداوية رؤيتهم للحياة، بتطرفهم؟. أليس كل العنف الضاج بيننا مجتمعيا آت في جوانب كبيرة منهم من عدم حسمنا في القرار السياسي حول هذا السؤال؟. من هنا الوعد الجميل الذي تقدمه لنا الصويرة. وإذا كانت كل عناوين المتعة الفنية الرفيعة، الإحترافية، التي حاولت حتى الآن رسم خريطتها، تقدم الدليل على رفعة الإبداعية التي وهبتها لنا الدورة 14 من مهرجان الموسيقى الكلاسيكية، فإن قمة القمم متعة، كانت في فكرة، أن تعزف الفرقة السمفونية المغربية، الرفيعة الأداء، المحترفة بأساتذتها وفطاحلتها من العازفين، حتى في أدق الآلات الموسيقية، يتقدمهم عازف الكمان الأستاذ الفقيه «فريد بنسعيد»، مقطوعات موسيقية لأفلام سينمائية خالدة (ريبرتوار جد غني)، مصاحبا بعرض لقطات من تلك الأفلام، التي أتت ذاكرة السينما العالمية. وكان من حظ الجمهور الغفير الذي غصت به قاعة الرياضات الكبرى بالمدينة، والذي كان ينصت في صمت رفيع (هذا أمر يسجل عاليا لجمهور الصويرة عنوانا عن سموه الفني والتربوي)، أن يكون قائد الأوركسترا هو الفنان برونو مومبري، الذي منح للحظة مسحة فرح فنية إنسانية رفيعة، من خلال تجاوبه مع الجمهور وطريقة تعامله الرفيعة مع العازفين وأيضا توظيفه لأكسسورات مكملة لدوره الفني غير معتادة دائما في الأجواق السمفونية. بالتالي، فإن من فكر فعليا في فقرة الموسيقى السينمائية تلك، ترفع له القبعات عاليا، لأنها لحظة عالية الجودة والقيمة. كنت دوما، أحرص بعد كل حفلة بادخة، أن أنسل إلى صمت المدينة بليل، لأكمل المشهد، فأجد أن النوراس لا تزال بعد ساهرة، وأجد أن الموج لا يزال يعزف سمفونيته مع الريح، وفي البعيد، تتراءى لي الجزيرتان ساكنتين، إلا من خيالات تراهم عين أخرى في الدواخل، ترى البحارة والعسس وترى الإنسان المغربي قد مارس الحياة هنا. ذلك درس الصويرة الأكبر أنها كانت، ظلت، ستبقى مدرسة حياة. وعنوان الإعتزاز الأكبر أنها مغربية.