أن يقف على منصة الغناء مطرب فلسطيني قادم من القدس (ماهر ديبة) ومطربة يهودية من أصول مغربية أمازيغية، ولدت بالقدس الغربية (نيتا الكيام من تنغير)، مرفوقين بعازفين من أصول مغربية يهودية أمازيغ ولدوا بالقدس (إلياد ليفي على الكمان من تارودانت/ آميث كوهين على البيانو من تيزكي قرب تازناغت/ ناتانيل بن شترتيت على الدربوكة)، ويغنوا بصوت واحد الأغنية الخالدة للمطربة اللبنانية فيروز «القدس لنا»، ثم أغنية مارسيل خليفة «منتصب القامة أمشي»، وبعدها ريبرتوار من الأغاني المغربية للأندلسي والغرناطي، فذلك لا يحدث سوى في المغرب وفي الصويرة. وبدون تردد يعتبر ذلك الحفل المسائي الذي تصادت فيه الأرواح والأصوات بشغف رفيع على جنبات «دار الصويري» العتيقة، أرفع لحظات الدورة العاشرة لمهرجان «الأندلسيات الأطلسية» الذي تنظمه سنويا جمعية «الصويرة موغادور».. في تلك اللحظة انتصر الإنسان، عبر الموسيقى للقضايا العادلة، وفي تلك اللحظة أصبح لمعنى الجملة القوية التي كان قد أطلقها في أولى الجلسات العامة للنقاش المفتوح بذات الدار، مستشار الملك محمد السادس، أندري أزولاي (مهندس اللقاء كله، وابن الصويرة الوفي)، حين قال: «لا معنى ليهوديتي ما دام الفلسطيني لا وطن له ولا دولة مستقلة له»، أصبح لها معنى باهر قوي. لقد وقف أبناء للحياة من أصول مغربية يهود، ولدوا بالقدس، وكبروا في دولة إسرائيل، وتعلموا في مدارسها، ولأن لهم سندا ثقافيا مغربيا أصيلا، ولهم رأي أحرار في التعبير عنه، وقفوا كي يغنوا بذات الصوت وبذات القوة في الحرارة أغنيات عربية خالدة ممجدة للحرية من أجل القدس وفلسطين. فلم يتعب الخاطر من طرح السؤال على ذاته: ما هذا الذي يحدث أمامي؟. ما هذا الجمال الإنساني الرفيع؟ ما هذا الفرح المنتصر للحق والعدل والحرية؟. وفي لحظة التقت العين بالعين مع ابن الصويرة السيد أندري أزولاي، وكما لو أنه يذكرني بجملته الأثيرة دوما: «هذا هو المغرب، هذه واحدة من ملامح قوته». كان ذلك الدرس هائلا في سماء الصويرة، وفي مكان ما كما لو أنه قد دخل عند عتبات «دار الصويري» كل أبناء المدينة المغاربة اليهود القدامى، منذ قرون غابرة، يتقدمهم تجار السلاطين المشهورين ومؤسسوا مدراس الفقه اليهودي المغربي في معابد آقا (قرب طاطا) وفي آسفيوالصويرةوتارودانت ودمنات وتاهلة، وشرعوا يرددون مع حفدتهم الذين حملتهم حسابات سياسية عالمية إلى أرض بعيدة (هي لكل الديانات السماوية تعبدا وتساكنا في نهاية المطاف)، ذات الأغنية المنتصرة للعدل والحرية والمقاومة. وحين جلست إلى المطربة الشابة نيتا الكيام، بأمازيغيتها وبملامحها التي تشبه أمازيغ سوس، فهمت أنها ورفاقها من الجيل الجديد من اليسار من مناصري السلام بإسرائيل وأنهم في قلب القدس ينادون بحق الشعب الفلسطيني في الحرية والإستقلال، وأنهم هناك يؤسسون لعمل مشترك مع جمعيات فلسطينية مقدسية. بل أكثر من ذلك أن حضورهم إلى المغرب (لأول مرة) قد جاء ضمن وفد جمعية القدس للتنمية والأبحاث الفلسطينية وأنهم يعملون منذ 2007 ضمن «أكاديمية القدس للموسيقى» التي يترأسها المطرب الفلسطيني ماهر خليل ديبة، الذي شاركوه الغناء بالصويرة. وحين تسأل المطربة «نيتا الكيام»، رفقة خطيبها «آميث كوهين»، وهي تطلب بإلحاح أن أكتب لها كلمات الأغنية الخالدة لمجموعة إزنزارن عبد الهادي إكوت «إمي حنا» حتى تغنيها في القدس لجمهور واسع من اليهود من أصول مغربية أمازيغية، حين تسألها: ما هو المغرب بالنسبة لك؟. تفيض العين بالدمع فيها قبل الجواب وتقول لك بلا تردد، باللكنة المغربية الدارجة: «بلادي وبلاد جدادي». الجميل أكثر، أن تلك المطربة المغربية اليهودية، حين تغني بخامات صوت رفيعة، ريبرتوار الأغنية المغربية للملحون، تسمع، حين تغمض عينيك، ذات صوت المطربة المغربية، ابنة مدينة صفرو «زهرة الفاسية»، مع قوة خاصة في مخارج الحروف وفرح طفولي بلا ضفاف وهي تلعب بالكلمات وتتحكم في مخارج الحروف بذات اللثغة التي تميز نطق اليهود المغاربة للدارجة المغربية. مثلما أدت أغاني صوفية عاشقة من ريبرتوار موسيقى الآلة المغربية الأندلسية. كانت الريح قوية باردة في ليالي الصويرة، وكانت النوارس بالمئات تحلق في الفضاء، وتطلق أصواتها في ما يشبه عزفا آخر للبحر على مدار اليوم، حيث تكاد لا تسمع في المدينة غير صوت الموج القادم من بعيد وصوت النوارس القوي المنادي، الذي لا يقطعه سوى آذان الصوامع للصلاة وصوت جرس الساعة الإنجليزية القديمة الهائل، الذي يدق صافيا كل ربع ساعة بانتظام بديع منذ أكثر من قرنين من الزمان. كانت الريح قوية باردة، حين يتسلل إليك صوت آلة الكمان مجروحا حزينا متواصلا من أول زنقة القاهرة وأنت تدلف إلى مقر «دار الصويري» عبر الباب العتيقة «باب السبع»، هناك حيث يتواشج النقاش الفكري والسياسي الرفيع الجريئ الصريح (بما فيه حتى المنتقد الغاضب)، مع انبراء صوت فني ليقول كلمته غناء أو عزفا أو إنشادا. حينها تكون القاعة الفسيحة لدار الصويري، تخلق بصمتها أنها منتصرة في الأول والأخير للفرح بالحياة في معناها البناء والإيجابي. وفي روح مماثلة، يحدث أن يطلب الكلمة بإلحاح واضح، سفير البرازيل بالمغرب (فريدريكو دوكي استرادا ماير)، كي يخبر الحضور أنه جاء إلى الصويرة زائرا منذ أكثر من سنة، يدفعه فضول الإكتشاف للوقوف عند نقطة التشابه بينها وبين مدينة أخرى بالبرازيل إسمها «الصويرة» بالأمازون، فأبهر بالمكان وبقصته في التاريخ، وكان ذلك سببا في أن يكتشف جزء من برازيليته بالمعنى التاريخي، حين وقف على معطى تواجد دار للقنصل البرازيليبالمدينة منذ القرن السابع عشر، وأنه بعد البحث توصل إلى أن أكثر من 20 بالمئة من يهود البرازيل هم مغاربة، وأن أغلبهم استقروا في منطقة الأمازون وهناك حافظوا على هويتهم الثقافية المغربية (أكلا ولباسا وموسيقى وعادات دينية). ثاني الحظات القوية في الدورة العاشرة من مهرجان «الأندلسيات الأطلسية»، ليس فقط اكتشاف طاقات شابة واعدة، مثل الطفلة نهيلة القلعي (12 سنة)، التي كانت تدير بحنكة الكبار المحترفين فرقة جمعية نساء فاس (تديرها السيدة إكرام الإدريسي السباعي والأستاذ مصطفى عمري)، وأدت أغاني في طرب الملحون بصوت قوي وهبته السماء خامات هائلة، جعلت الحضور يقف لها بالتصفيق لأكثر من سبع دقائق، وهي غارقة في خجلها الطفل إلى جانب شقيقها الذي كان يردد معها بعض المقاطع وهو يعزف على آلة الدف أو آلة الكمان. وليس فقط اكتشاف فرقة الموسيقيين المغاربة اليهود القادمين من القدس، خاصة العازف على آلة الكمان «إلياد ليفي» (والده من تاردوانت، وهو الذي حرص على تعليمه موسيقى بلده بإصرار ويعزف آلة الكمان على طريقة طرب الآلة الأندلسية أي على الركبة وليس على الكتف)، والعازف على آلة البيانو «عمري مور»، الذي جعل الفرقة كلها تنجح في عزف طرب الآلة والغرناطي لكن بطريقة مبتكرة، أقرب للجاز على الطريقة المغربية الأندلسية، مما قد يحول ذلك العمل إذا وجد من يدعمه ويحميه ويشجعه ويفتح أمامه آفاق العالمية أن يصبح مدرسة مغربية موسيقية رائدة في كل الأصقاع. وليس فقط، الإحترافية العالية لأوركسترا الحاج عبد الكريم الرايس الشهيرة برئاسة الفنان الأستاذ محمد بريول، التي لو قلنا أبدعت فكما لو أننا نقول «السماء فوقنا»، وكيف أنها جعلتنا نكتشف أصوات المطربة الشابة عبير العابد ومروان حجي وبنجمان بوزاغلو (القادم من باريس، والذي حكى كيف كان والده يلزمه بأداء الأغاني المغربية الأندلسية منذ صغره، مما جعل رفاقه يتندرون منه، قبل أن يصبحوا اليوم من كبار المعجبين به في فرنسا لأنه يمتلك ما لا يمتلكون من خصوصيته الثقافية المغربية)، ثم مشاركة خاصة رصينة ورفيعة وعالية القيمة للمطرب المغربي عبد الرحيم الصويري، الذي كان آخرا هناك في الصويرة، رصانة واحترافية وعلو كعب فني وامتثالا لواجب الأداء الرفيع لطرب الآلة مما جعل القاعة تقف له طويلا بتصفيق ممتد صادق.. وليس فقط، الليلة البادخة لفرقة التمسماني الأندلسية التطوانية برئاسة الأستاذ محمد الأمين الأكرمي، حيث العزف مختلف عن باقي المدارس المغربية الأندلسية الفاسية والرباطية، مختلف في أثر الكمان وفي رقة التواشي وفي مخارج الحروف الشمالية ذات المد الأطول والوضوح في التعبير، وحيث الأداء الغنائي الرفيع للمطربة الشابة زينب أفيلال، التي تصادت وتواشجت معها المطربة المغربية فرانسواز أتلان (الرهيبة في أدائها على مستوى قوة الصوت ومخارج الحروف وهي المديرة الفنية للمهرجان).. ثاني اللحظات القوية، ليس فقط ذلك كله، بل اللحظة التي صنعتها فرقة جلال شقارة التطوانية (إبن أخ الفنان المغربي الكبير الراحل عبد الصادق شقارة)، رفقة المطربة الإسبانية «إستريلا مورينتي». هنا، وليلتين متواصلتين، كان الصوت الرهيب جمالا وروعة وفنية لابنة الأندلس، الخارقة الجمال الرباني، مورينتي، قد حول قاعة الرياضات المغطاة الكبيرة إلى قطعة كاملة من الفرح الإنساني الرفيع بالفن الأندلسي الإسباني الرفيع. كانت خامات الصوت، ببحته الأسيانة، بقوته الرهيبة، بحساسيته الغاية في الرقة واللين، باندماج المطربة الروحي في لحظة الإنشاد، بتساميها في الأداء مثلما يتسامى المتعبد الصوفي في مدارج الحلول، قد جعل الجميع (وهم بالمئات من جمهور الصويرة المؤدب جدا، المنصت عميقا، بلا ضجيج ولا ضوضاء وفي انضباط مبهر، رسالة عن ثقافة سلوكية عمومية لأبناء الصويرة)، يلجون إلى براح كامل من الجمال الفني، يستحيل أن يتكرر بذات التفاصيل مرة أخرى، ويستحيل أكثر أن تفلح اللغة والكلمات في نقل ألقه وجماله الرباني الرفيع. كانت أصابع فنانة مدينة غرناطة (من مواليد 1980) تكاد تسبقها في خواء الفضاء لتستل القوة من السماء كي توصل الفنانة بجوارحها كلها ما توده من جمال في الأداء وهي تغني الأغاني الخالدة للفلامينغو الأندلسي الإسباني، وكانت بحة الصوت الرهيبة جمالا تمنح للأنثى تلك أن تكون سيدة. وأن تنحني لها هامات الإعجاب وأن تخرج من أعماق أعماق الوله صرخات المتفرجين الذين يطلقون عبارة مشتركة «الله»، عنوانا على أن السيدة تلك عزفت على وتر رفيع للمحبة للفن في دواخلهم. وحين وقفت القاعة كلها في تصفيق حاد طويل متواشج لأكثر من 10 دقائق بلا انقطاع، كانت إستريلا مورينتي (سليلة عائلة مورينتي الموسيقية الأندلسية الإسبانية الشهيرة، فأمها راقصة فلامينغو شهيرة هي أرورا كاربونيل ووالدها هو المطرب الشهير إنريكي مورينتي)، تنحني خجلا والدمع يملأ مآقيها، وفي لحظة انخطاف رفعت يدها اليسرى بعد أن وضعتها على قلبها إلى السماء، كما لو أنها ترسل قبلة قلب لروح والدها هناك الذي توفي يوم 13 دجنبر 2010 عن عمر 58 سنة. هل يمكن أن ينسى الخاطر أمام لحظتين قويتين، هائلتين، مثل هذه، للدورة العاشرة لمهرجان «الأندلسيات الأطلسية» (أي لحظة غناء مطرب فلسطيني ومطربة يهودية من أصول مغربية لأغاني فيروز ومارسيل خليفة. ثم لحظة غناء إستريلا مورينتي)، تشريف سيدة مغربية جليلة، للمهرجان طيلة صباحاته الثلاث، من خلال عرض أشرطتها الوثائقية الرفيعة كقيمة تاريخية توثيقية، وكعمل جمالي فني رفيع، هي المخرجة المغربية اليهودية إيزا جانيني؟. هل يمكن للخاطر أن ينسى ذلك، هل يجوز له حتى؟. لقد شكلت أشرطتها الثلاث (مديح الروح/ المطروز/ دق الطبول)، لحظة فارقة لسفر آخر في الزمن، حيث تتبعنا تاريخ الصوفية الشعبية بالمغرب من خلال موسم مولاي ادريس زرهون بمدينة زرهون في السبعينات من القرن الماضي. مثلما تتبعنا قصة أول تلاق بين الحاج عبد الصادق شقارة بباريس سنة 1978، مع الحاخام المغربي حاييم لوك، لأداء الإرث الغرناطي الأندلسي القديم المعروف ب «المطروز». وكانت تلك لحظات متعة مفارقة أخرى في المهرجان. في مكان ما، لا يزال صوت «إستريلا مورينتي»، الحزين وهي تناجي والدها الراحل، يتصادى عاليا في سماء الصويرة، تردده النوارس هناك بذات الشغف الإنساني الرفيع، حين رددت قائلة: «يا عكازي الذي لا يبلى.. سأتعلم مثل حبة رمل في شاطئ مالقا كيف كنت تمشي جنب الموج.. وأكبر في صمت الرمال. أحبك بمذاق مالقا، أنت الرمل المحيط دوما ببحار حياتي أفتقدك وأفتقد نداءات «أولي» للثيران الدائمة الحياة..».(*) هامش: (*) ترجمة مقطع هذه الأغنية أنجزه الزميل عزيز الساطوري