تشرّفتُ صباح يوم الثلاثاء 21 أكتوبر 2014م بحضور لقاء علمي سامق بفضاء الندوات بكلية الآداب-مرتيل، أطّره أحد رموز الفكر الإسلامي المعاصر، فضيلة الدكتور أحمد العبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء. اللقاء الذي دعت له بِنْيات البحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، اختارت له موضوع " إشكال الوجهة في عالم متغيِّر " .. وكان للمحاضرة طعمٌ خاصٌّ يا سادتي! فإسهاماً مني في توزيع لَذاذة الفاكهة المعرفية السامية التي قدّمها الدكتور العبادي بين يدي الأساتِذة والباحثين والطلبة، أنْثُرُ أضُرباً من المحاضرة بين يدي المهتمّين والطلبة وزوّار المواقع الإلكترونية والعالم الافتراضي؛ من أجل غايةٍ مفيدة. اختار الدكتور العبادي لمداخلته القيمة بين يدي اللقاء؛ المنهجية الآتية : مقدمة، تِسعُ عتبات، وخلاصة. انطلق محلِّقاً في سماء الفكر والمعرفة بمقدِّمة إبستيمولوجية لذيذة، غارِفاً من أعماق المعارف أجودَها، ومن المنهجيات أدقَّها، ومن العبارات أرصَنَها، ومن المصطلحات أصعبَها، ومن الأشعار أسْحَرَها.. وذلك بلسانٍ عربي مبين، واستدعاءات إنجليزية وألمانية فصيحة.. شاهت وجوه الأساتِذة، وانتفشت زعانِف الطلبة، وانتصبت قرون استشعار الباحثين؛ وانطلق الجميع في خشوعٍ مهيبٍ في رحلة البحث عن وجهة خاصة في عالم متغيّر متبدِّلٍ غير رحيم. وبدون العودة مُطلقاً للأوراق التي خطَّ عليها مداختله، استأنف الدكتور العبادي يُشنِّف الأسماع بعتباته التّسْع التي حاول (حسب قوله) الاقتراب من تطلُّبات الموضوع والإشراف من قمم العتبات على مزيدٍ من الإشكالات والقضايا ذات الصِّلة بالمحاضرة قيدَ التدفُّق والمفاكَرَة. في العتَبَتَين الأولى والثانية دار الحديث عن {مُسلَّماتٍ لا شَيَةَ فيها} بَين يدي التحوّلات والتبدُّلات التي يعرفها العالم؛ وفي المَتْن منه العالم الإسلامي الفسيح، إذ أجمَلَ المتدخِّلُ الخطوط العريضة للمتغيّرات فيما يأتي: 1- عالم متناهِ الصِّغر: (العولمة، هيمنة السوق الحرة، الإيديولوجيا الليبرالية الطاغية، تكنولوجيا التواصل والاتصالات الجديدة..)، 2- انهيار بُرج بابِل: (تلاقُح الثقافات، تمازج المعرفيات، سقوط التحصُّن والتمنُّع اللغوي، حاجات التكامل الألْسُني بين الأمم..)، 3- الموجة الرابعة للثورة الصناعية؛ النانو_تيكنولوجيا: (الهوّة السحيقة بين العوالم، حقّ التملُّك وغطرسة الاستتباع، اختراقات التكنولوجيا المعاصرة لأبسط مظاهر الحياة البشرية والطبيعية ..) 4- مشاكل مُشتركة: (المياه، العنف، التطرُّف، العطالة، الجوع، شبح التنمية، قضايا البيئة..) 5- صعوبة التّغاضي عن أضرُب التواصل: ( اللغوي، العلمي، الفنّي، الحضاري ..). في العتبة الثالثة أطلَّ العبّادي مِن عَلٍ على جَوْهر التَّرابط والتّشاكُل بين " الوجهة والقبلة " ، وأردفَ في ذلك جُملة من التعابير الفنية والمُقابلات التّشبيهية والأمثلة الممتدّة في الزمان والضاغِطة في الحاضر، وفاجأ الحضور بنوع الاستلهامات التي يستلُّها من بين دفّتي القرآن وثنايا وقائع السيرة مُعمِّقا بها مسار البحث عن شفاء مسيرة الأمّة الأمة التي حادث عن الوجهة لأنها أضاعت موضع وموقع القبلة، فقال: " إنّ الموقع هو الذي يُحدّد الوجهة "، ثم بيّن أن المقصود ب " القبلة " ليس ذلكُمْ الموضِع الذي يحجُّ إليه الناس بمكّة، والمعروف في المُسَتَعْمَل الكلامي ب " الكعبة "، بل المقصود بها " القبلة الحضارية، والتي تنضوي تحتها قِبْلاتٌ متعدّدة، أشار إليها الرب في قوله { ولِكُلٍّ وجهةٌ هو مولّيها }". ثمّ عرج على مسألة غاية في الأهمية، ألا وهي تِبيان الحِكمة من اختيار الله للقبلة التي نرضاها، القبلة التي يشكِّل فيها براديغم التعارف مكانةً سامية لا يبلغها براديغم التسامح... وطال حديث الرجل في هذا الباب، حتّى أمتَع ! أما العتبة الرابعة فقد اختار لها قضيتين تنْزعان بإشكال الوجهة صوب ضفاف الوضوح والقيادة لأمّة الإسلام: أولى القضيتين (ضرورة إجراء الإنصاف والمصالحة الحضارية بين العالم والعالم الإسلامي لمقدّمة أساسية للتعارف الذي تحضُ عليه " قبلة " المُسلمين)، مذكّرا في هذا السياق بمسأتين: _ أنّ على أمّة الغرب / الغازِي أن تُجرِيَ اعتذراً رسميا عمّا ارتكبته في حقّ الوحدة الجغرافية والسياسية والدينية والهوياتية للأمّة الإسلامية طيلة فترات الاستعمار المباشر وغير المباشِر؛ _ وأنّ إنسان العالم الإسلامي اليوم مدعُوٌّ للتعامل مع كتابين: الكتاب التكويني – الحركة ، والكتاب التدويني – التلاوة أو القرآن، وهو ما يتساوق مع الدعوة التي سبق أن ألحَّ عليها المفكٍّر السُّوداني الرَّاحل أبو القاسم الحاج حمد (القراءة بالله، والقراءة بالواقع). اعتبر الدكتور العبادي أنّ إقدام الغرب على المصالحة؛ وإقدامنا على مدّ جسور البراديغم التعارُفِي يتوقَّف في الأخير على مَقدُرة كل فرد من أفراد أمّة الإسلام على حُسن الجَمع بين القراءتين، قائلاً: " لا يمكنك أن تنفكَّ عن قَدَرِكَ باعتبارك إنساناً قارِئًا " ، جامِعاً بين قراءة الكتاب التكويني والكتاب التدويني والمنسجَم مع رسالتك باعتبارك {رحمة للعالمين} وباعتبارك {شاهِداً وسطاً}..وختم الدكتور هته العَتَبَة منوِّهاً بقُدرة السلف من علماء الأمة العظام الأوائل في كل الميادين الذين جمعوا بدرايةٍ فائقة بين " الآيات والآفاق " فأناروا الحضارة بهذا التكامل البديع، في حين انْفَكَّت حضارة الغرب المادية الأُحادِية وانقَلَعت عُلومُها عن عُروَة الآيات وحصل الفِصام النّكد بين " الآيات والعلامات " فنتج عن ذلك التّفكُّك والألحاد والتبسيطية والاختزالية والعلمانية، وكلّ تلك المطبّات التي عالجها بعمق معرفي المفكّر الموسوعي الراحل عبد الوهاب المسيري في كتابه " الفلسفة المادّية وتفكيك الإنسان ". وخصَّ العتبة الخامِسة بنوعٍ من الاقتصار على الدور الريادي الذي تلعبه القِرائية في المنظار المرجعي للأمّة الإسلامية، حيث نبّهَتْنَا كثيرٌ من آيِ القرءان الكريم على أنّ شرف نيل الكرامة والقيادة مرهونٌ بمدى ارتباط الأمّة " بالحرف والقلم " و " بالذي علّم بالقلم "، قائلاُ: " إنّه لا قدرة لنا على تحديد الوجهة وقيادة النّاس إلا بالقرائية !". أمّا العتبة السادسة فقد استأنف فيها الحديث عن " الوجهة والقبلة " ذاكِراً من خبر التاريخ الإسلامي أضْرُباً من الأمثلة التي أنتجنا فيها رُزَماً من القيم المُؤطِّرة لعلاقتنا بالغيب والطبيعة والإنسان، وكيف عمِلَت تلكم القيم والمُثُل على تحديد وجهتنا صوب عدد من القضايا، مذكِّرا في ذات النصابِ بمؤسّسة النّبُوّة التي نجحت على مدى 13 قرناً في ترسيخ منظومة قيم شامِخة قلَّصت هامِش افتراق النّاس حول الإشكالات المتعدّدة وعلى رأسها إشكال الوجهة في عالم متغيّر (بالنّسبة إلى كل قرنٍ طبعاً). في العتبة السابعة وجّه المُحَاضِر القول إلى كل فردٍ من الحُضور من ثَمَّ أفراد المجتمع والأمّة "..انطلاقاً من التّيسير القرآني {ولقد يسّرنا القرآن للذّكر؛ فهل من مُذّكر؟} أنتَ مدعُوٌّ للقراءة في الجوانِب المتغيِّرة للواقع " إسهاماً منك في تحديد وجهة الأمّة في العالم السريع الإيقاع والتّغيُّر. إنّ علّة العِلل في نظر العبادي تكمُن في أنّ مؤسسات الأمّة والأوائل من أفرادِها عجزت لحدّ الآن عن " تجميعِ الجهود وتولِيفها " خِدمةً لمشاريع الإنهاض والتمكّن والريادة في عالَمٍ استفرد بقيادة الأمور فيه أمَمٌ دون أخرى. يقول في هذا السياق: " أمامنا أربعُ حلقاتٍ متماسكة لتقديم مشروع كبير نُعرِّف فيه العالم من نحن، ونجعله يقرؤنا من خلالنا لا من خلاله، وإنّي أقترح عليكم هته الحلقات كالآتي : 1_ صياغة الرؤية (إدراك أنّ العالم متغيٍّر / ضرورة تملّك السرعة المناسبة / ضرورة تملُّك الفعل المناسب..) 2_ بناء المفاهيم وتعريفها (تحديد المفاهيم من داخل المنظومة الحضارية الإسلامية / تعريفها تخاصِّيا وبحُمولتنا / صياغة مفاهيم تُساعد على الرؤية..) 3_ صناعة المُركّبات المرجعية 4_ حسمُ الأولويات في صوغِ الخطاب " . أمّا العَتَبَة الثامنة فقد خصَّها فضيلة الدكتور العبادي بحديث غاية في العِلمية والدّقة، حول تحديد معنى " الشّخصية " التي نبني بها الوجهة الحضارية، جمع في ذلك بين الرياضيات والمنطق وعلم الإدارة والتنمية البشرية، مستندا في ذلك إلى أحدث الدراسات البحثية والمُؤلفات العلمية في الصين وألمانيا والولايات المتّحِدة الأمريكية. لقدّ تجمّع في هته العتبة ما تفرَّق في غيرها، علماً ومنهجاً، وفكراً..إذ جعل المحاضر " الإنسان " محورَ العملية التّحَضُّرية، ومرْكَزَ إعادة صناعة " الوجهة الحضارية " . أمّا آخر العتباتِ تراتُبيةً فقد ركّز فيها الدكتور العبّادي الكلام عن مُستجدّات الظّواهِر بروزاً في العالم العربي، المتمثِّلة في ظاهرة " الغلو والتطرّف " أو المعروفة في المُتَدَاوَل الإعلامي والشَّعبي ب " اللّحْظَة الدّاعِشية "، مُقيماً لجدلية " الخِطاب والظاهِرة " جُسُوراً من الترابُط بينها وبين " إشكال تَحقُّق والوجهة "، حيث اعتبر أنّ الخطاب المُغالِي والمتطرِّف والذي حرَّف مسار السعي نحو الوجهة، " لهُ أُسُس يقوم عليها، وانزلاقاتٌ دقيقة، تستنِدُ في مشروعيتها على سبع حلقاتٍ تتمثَّلُ في: 1_ العلاقة مع الغرب الناهب السالب الغاصب (علاقة دم) 2_ استنبات إسرائيل 3_ تفكيك الوحدة في جَسَد الأمّة 4_ المعايير الدولية المُزدَوَجة 5_ الإذلال والمهانة (للعرب والمُسلمين) في الإعلام والسينما والأفلام 6_ نهب الخيرات (داخليا) وتوزيع الثروات (خارجيا) 7_ إشكال الكوكتيل في المشرق العربي (حقّ التدخُّل السافر الباطل) " .. هته سَبْعُ أسبابٍ وقفت وراء تطوّر اللحظة التطرّفية وتمدّدها المجالي واستقطابها البشري وإغرائها اللامحدود. منها ما هو خارِجي، ومنها ما هو وليد بيئة حصلت فيها انسدادات على أكثر مِن مُستوى، ولّدت ظواهر لم تكن أبداً في الحُسبان ! حسب المحاضر؛ فإنّ الطّفرة التي أحدثها الخطاب المتطرِّف (إمّا تِلقائيا أو بفِعل الأمر) لَعِبُه على وتَرَيْن حسّاسين مؤثِّرين وجدانيا ونفسيا وذهنيا في شرائح عريضة من ساكنة العالم الإسلامي والعربي: وتَرُ استرداد الكرامة والعدل وحفظ الدين؛ وتَرُ السعي لتحقيق حُلم الوحدة (دولة الخلاقة الإسلامية) ! كما قدّمَ _ الخطابُ المتطرِّف_ للراغبين والمندهشين والمُنْشَدِّين إلى فكرته وخطابه جملة من الوعود، أجمَلها الدكتور العبادي في ثلاث ( توتةٌ، وقِشدةٌ، ومُنَى) أمّا التّوتة؛ فإغراؤه الشباب والملتحقين به من كل الجنسيات والأعمار بقضية توفير " مكانة " بين الأقران في دنيا العبيد، مكانة اجتماعية ودينية وسياسية.. وأمّا القِشدةُ؛ فموعودُهُ لهم بتحقيق " عيشةٍ " هنية بكرامة في عالمٍ سلبهم كرامتهم وحُريتهم وعيشهم.. وأمّا المُنى؛ فجنّاتٌ ونهَرٌ ورضوانٌ من الله ! وأتى المُحاضِر على ذكر خُلاصةٍ لكلمته العلمية الراقية مُنوِّهاً بمسألة التمييز في كل ما قيل بين بُعدين أساسيين لإشكال الوجهة في عالم متغيِّر: بعْدٌ نظريٌّ، تخدمه أساسيات المعرفة والتأليف والتباحُث والتّفاكُر، وبعْدٌ واقِعِيٌّ يَنْظُمُه السعي المَكينُ لإقامة مشاريع منهاجية وأكاديمية وتنظيمية كادِحة، علَّ " العَمل " يحقق لنا مُكْنَة حقيقية للنهوض والشهود جنباً إلى جنب معَ الأصول النظرية للعمل، والتي هي في المَتن؛ الجانِب النّظري لإشكال الوِجْهة. وختم السيد أحمد العبادي محاضرته الشيقة الماتعة النافِعة الجامعة حديثه بالتأكيد على أنّه لا مناص من الشُّروع في العمل، والكدح، ف " إذا نظّمنا أنفُسنا؛ قد نكون الزّناد الذي يقدح شرارة الأمل والعمل في مُواجهة إشكالات الوجهة في عالمٍ متغيِّر " . بحقّ؛ كان لقاءَ فكريا ثرّاًّ فائضاً موّاراً، زعزع التمثّلات، وحرّك الرغائب، وأنعَش العقول، وأبحَر بالعزائم سعياً إلى مرافئ ترسو عليها سُفُن العطاء والأداء والوفاء. إنّ المُستمع إلى كلام العبادي المُنسَّق، المُرتّب، المُهذّب، يشعر وكأنّه يقرأ كتابا مفتوحاً، اجتمع فيه السهل الممتنع، والمحلي والعالَمي، والماضي والحاضر.. ويلمسُ أنّ الرجل يتحدّث بصفاءٍ ونقاءٍ فكري ناصع، يأخذ منهجية التحليل والتفكيك والتركيب من الوحي، يبسُط مقولاتٍ متجدّدة، لا ترى فيها عِوجاً نقْلِيا ولا اسْتِتْباعاً عقليا، فرغم موسوعيته وانفتاحه اللامحدود؛ فإنك لا تكادُ تعثُر على مساحات الاختراق لديه، فالرجل غير مُختَرق حداثيا أو عَلْمانيا أو عِلْمائياُ، بل صافِياً كماء المُزْن، واضحاً كالشمس في رابعة النهار، شفّافاً كالزّجاج، راسخاً كالجبال، شُجاعا في المناقشة والمحاورة والمحاجَجة، من الغزّالي إلى الأصفهاني إلى هانز غادامير إلى فريدمان، رحابةُ صدر وقوّةُ بَسْطٍ وعمقُ فهمٍ وجراءة مُراجعاتٍ .. المعرفة قوّة؛ والعلم زَينٌ وتشريفٌ لصاحِبه، والشكر والتقدير لفضيلة الدكتور أحمد العبادي. والسلام بقلم؛ عدنان بن صالح عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التجديد الطلابي