تأتي هذه الرسالة البحثية في "السعادة من منظور إسلامي" في وقت اختلَّت فيه مفاهيم المصطلحات الشرعية والعقدية، بسبب الغزو الثقافي الذي تتعرض له أمة الإسلام من جهة، ومن جهة أخرى نكوص الناس عن معرفة الضروري من علوم دينهم، ومن أهمها علم العقيدة باعتبارها الأساس الذي يبنى عليه التشريع الذي يكون به قوام الإنسان في هذه الحياة الدنيا ليجري على الطريق التي تضمن له السعادة الدنيوية النسبية المشوبة، وتضمن له مفتاح دار السعادة الأخروية الدائمة. وربما يسأل السائل: ما علاقة السعادة بعلم العقيدة؟ وكيف يمكن مقاربتها من هذه الزاوية؟. فالجواب: أن هذا السؤال لا يسأله إلا صنفين من الناس؛ أولهما: صنف لا يقيم للدين حساب في وجوده الدنيوي، وتركيبه الجسدي والروحي وتفاعلهما، والصنف الثاني: متدين لكنه جاهل بدينه وقواعده الأساسية. إن مبحث القضاء والقدر _ الذي هو أحد أركان الإيمان، و"نظام التوحيد" كما عبر عنه حبر الأمة عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما_ هو المبحث المحضن الذي تبلور فيه مفهومي السعادة والشقاوة، سواء الدنيوية منهما أو الأخروية، وهما مفهومين عقديين، جاء القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة باستعمالهما متضادين في أغلب سياقاتهما، ليدلا على أن السعادة هي في الإيمان بالله الموجد لهذا الكون الباعث الرسل بالشرائع، وأن الشقاوة هي في عكس ذلك؛ أي الكفر بالله. وقد صحح القرآن الكريم والبيان النبوي ما كان سائدا في الوسط العربي من الاعتقاد في النجوم وغيرها من أنها الجالبة للسعادة أو النحس، ليؤكد المفهوم الصحيح وهو أن السعادة في التوحيد، والشقاوة في الإشراك والإعراض عن الآيات الإلهية التي منها النبوة المعجزة، إذ أخْبر الله على ألسن رسله بمصير السّعداء والأشقياء وأمر بما يُوصل إِلى السَّعادة وَنهى عَما يُوصل إِلى الشقاوة. يقول الشيخ محمد عبده رحمه الله في بيان هذا التصحيح: "فالإشراك اعْتِقَاد أَن لغير الله أثرا فَوق مَا وهبه الله من الْأَسْبَاب الظَّاهِرَة، وَأَن لشىء من الْأَشْيَاء سُلْطَانا على مَا خرج عَن قدرَة المخلوقين، وَهُوَ اعْتِقَاد من يعظم سوى الله مستعينا بِهِ فِيمَا لَا يقدر العَبْد عَلَيْهِ، كالاستنصار فى الْحَرْب بِغَيْر قُوَّة الجيوش، والاستشفاء من الْأَمْرَاض بغير الأدوية الَّتِى هدَانَا الله إِلَيْهَا، والاستعانة على السَّعَادَة الأخروية أَو الدُّنْيَوِيَّة بِغَيْر الطّرق وَالسّنَن الَّتِى شرعها الله لنا، هَذَا هُوَ الشّرك الذى كَانَ عَلَيْهِ الوثنيون وَمن ماثلهم، فَجَاءَت الشَّرِيعَة الإسلامية بمحوه ورد الْأَمر فِيمَا فَوق الْقُدْرَة البشرية والأسباب الكونية إِلَى الله وَحده، وَتَقْرِير أَمريْن عظيمين هما ركنا السَّعَادَة وقوام الْأَعْمَال البشرية، الأول: أَن العَبْد يكْسب بإرادته وَقدرته مَا هُوَ وَسِيلَة لسعادته، والثانى: أَن قدرَة الله هى مرجع لجَمِيع الكائنات..."[1]. وليصحح أيضا النظر الفلسفي العقلي المجرد، الغير المسدد بالوحي لمفهوم السعادة والشقاوة، علما أن: "اخْتِلَاف الْمذَاهب فى كنه السّعادة والشقاء الآخرويين وفيما هو مَتاع الْحياة الْآخِرة، وفى الوسائل الَّتى تعد للنعيم، أَو تبعد عن النكال الدَّائم، وتضارب آراء الْأُمَم فيه قديما وحديثا، مِمَّا لا تكاد تحصى وجوهه"[2]. إذن فقد علق الله عز وجل السعادة والإسعاد بالتوحيد والإيمان، وعلق على ضدها وهو الكفر الشقاوة والهلاك يوم التناد، قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود: 105 - 108] قال الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره: "اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بأنه شقي، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه، وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا وعلمه جهلا وذلك محال، فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا وأن الشقي لا ينقلب سعيدا"[3]. فهذا عن المصير الأخروي، أما الدنيوي فقد قال تعالى في بيان استخلاف آدم في الأرض وخطابه وإبليس: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 123 - 124]، قال ابن كثير رحمه الله:" وقوله: {فإما يأتينكم مني هدى} قال أبو العالية: الأنبياء والرسل والبيان،{فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} قال ابن عباس: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة،{ومن أعرض عن ذكري} أي: خالف أمري، وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه {فإن له معيشة ضنكا} أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه مالم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد. فهذا من ضنك المعيشة"[4]. هنا يوضح ابن كثير بمفهوم المخالفة أن السعادة ليست في تحصيل الرفاه الدنيوي في اللباس والمأكل والسكن، وإنما السعادة بالمفهوم الرباني هي في اتباع الأنبياء والرسل وما جاؤوا به من توحيد الألوهية والربوبية. ومن ثم نجد أن علماء الحديث رحمهم الله لما دونوا الأحاديث الواردة في السعادة والشقاوة، أوردوها في كتاب التوحيد والقدر كما عند البخاري رحمه الله، وترجموا لها بباب ما جاء في الشقاء والسعادة كما فعل الترمذي في سننه، وهو دليل على صحة فهمهم لمعنى السعادة الحقيقية وارتباطها بالعقيدة توحيدا وقدرا من الله، "والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكذلك الآثار عن السلف. قال أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد": قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها وترك المجادلة فيها..." [5]. ومن أحاديث الباب ما أخرجه البخاري عن علي رضي الله عنه قال: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: «ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة» فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: «أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة» ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} [الليل: 6] الآية"[6]. وَكَذَلِكَ أخبر رَسُول الله أَنه رأى الْأَرْوَاح لَيْلَة أسرى بِهِ عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا من عَن يَمِين آدم أَرْوَاح أهل السَّعَادَة وَعَن شِمَاله أَرْوَاح أهل الشقاوة. قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: "وَمَعْنَاهُ أَن من قدرت لَهُ السَّعَادَة قدرت بِسَبَب فيتيسر لَهُ أَسبَابهَا وَهُوَ الطَّاعَة، وَمن قدرت لَهُ الشقاوة وَالْعِيَاذ بِاللَّه قدرت بِسَبَب وَهُوَ بطالته عَن مُبَاشرَة أَسبَابهَا، وَقد يكون سَبَب بطالته أَن يسْتَقرّ فِي خاطره إِنِّي إِن كنت سعيدا فَلَا أحتاج إِلَى الْعَمَل وَإِن كنت شقيا فَلَا يَنْفَعنِي الْعَمَل، وَهَذَا جهل فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَنه إِن كَانَ سعيدا فَإِنَّمَا يكون سعيدا لِأَنَّهُ يجْرِي عَلَيْهِ أَسبَاب السَّعَادَة من الْعلم وَالْعَمَل وَإِن لم يَتَيَسَّر لَهُ ذَلِك وَلم يجر عَلَيْهِ فَهُوَ أَمارَة شقاوته"[7]. وقال رحمه الله أيضا في معارج القدس في مدارج معرفه النفس: "إِن هَذِه السَّعَادَة الْحَقِيقِيَّة لَا تتمّ إِلَّا بإصلاح الْجُزْء العملي من النَّفس، فإليه يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ"[8]. إذن فالأساس العملي للاعتقاد، هو الدافع إلى تحصيل السعادة، وأن هذا العمل إنما هو علامات وأمارات عليها، قال الكلاباذي رحمه الله في التعرف: "وَأَجْمعُوا أَن الْأَفْعَال لَيست بِسَبَب للسعادة والشقاوة وَأَن السَّعَادَة والشقاوة سابقتان بِمَشِيئَة الله تَعَالَى لَهُم ذَلِك وَكتابه عَلَيْهِم كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث... وَقَالُوا إِنَّهَا أعنى أَفعَال الْعباد عَلَامَات وأمارات على مَا سبق لَهُم من الله كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ)"[9]. وقد فهم السلف الصالح هذا الأساس العملي للسعادة وعبروا عنه، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْزَجَانِيُّ: "من علامات السعادة على العبد تيسير الطاعة عليه، وموافقة السنة في أفعاله، وصحبته لأهل الصلاح، وحسن أخلاقه مع الإخوان، وبذل معروفه للخلق، واهتمامه للمسلمين، ومراعاته لأوقاته"[10]. وأسباب السعادة إنما هي من كسب الإنسان في الدنيا فهو المسؤول عنها بمقتضى الحرية التي وكلت إليه، قال البطليوسي رحمه الله: "فالإنسان إِذن يسْتَحق أَن يُسمى عَالما صَغِيرا من جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا: خِلقَة لَا عمل لَهُ فِيهَا. وَالثَّانيَِة: اكْتِسَاب يكتسبه، إِلَّا أَن سعادته إِنَّمَا هِيَ بالاكتساب وَحُصُول الْعقل الْمُسْتَفَاد، وَأما الخلقية فَإِنَّمَا هِيَ هَيْئَة واستعداد جعل معرضًا بهما لنيل السَّعَادَة إِن فهم ذَاته وَعلم مرتبته من الْعَالم؛... وَإِن جهل ذَاته وَلم يعرف مَا الْغَرَض بِكَوْنِهِ آخر الموجودات هلك وَطَالَ شقاؤه، وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (النَّاس نيام فَإِذا مَاتُوا انتبهوا)، وَقَالَ: (أعلمكُم بِنَفسِهِ أعلمكُم بربه)، وَقَالَ لعَلي رَضِي الله عَنهُ: (تقرب إِلَى الله بعقلك إِذا تقرب النَّاس إِلَيْهِ بأعمالهم)"[11]. إذن: فالسعيد من سعد بِقَضَاء الله وَقدره، والشقي من شقي بِقَضَاء الله وَقدره، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا مَعْنَاهُ: (السعيد من سعد فِي بطن أمه، والشقي من شقي فِي بطن أمه، والأعمال بالخواتم) نسْأَل الله تَعَالَى خَاتِمَة الْخَيْر بمنه وَكَرمه، فَمن ختم لَهُ بِالْإِيمَان فقد حصلت لَهُ السَّعَادَة الأبدية، وَمن ختم لَهُ بالْكفْر نَعُوذ بِاللَّه من سوء الخاتمة، فقد حصلت لَهُ شقاوة أبدية. الهوامش: 1. رسالة التوحيد، لمحمد عبده، الناشر: دار الكتاب العربي، (ص: 33). 2. رسالة التوحيد لمحمد عبده، (ص: 47). 3. مفاتيح الغيب، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1420 ه (18/ 399) 4. تفسير ابن كثير ، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، المحقق: سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة، (5/ 322). 5. شرح الطحاوية - طبعة دار السلام، (ص: 249). 6. صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر: دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة: الأولى، 1422ه، مع الكتاب: شرح وتعليق د. مصطفى ديب البغا أستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة - جامعة دمشق، (2/ 96). 7. المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي ،المحقق: بسام عبد الوهاب الجابي، الناشر: الجفان والجابي - قبرص، الطبعة: الأولى، 1407 - 1987م، (ص: 97). 8. معارج القدس في مدارج معرفه النفس، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، الناشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت، الطبعة: الثانية، 1975م، (ص: 152). 9. التعرف لمذهب أهل التصوف، أبو بكر محمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب الكلاباذي البخاري الحنفي، دار الكتب العلمية - بيروت (ص: 60_ 61) 10. الاعتصام، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، تحقيق ودراسة: الجزء الأول: د. محمد بن عبد الرحمن الشقير الجزء الثاني: د سعد بن عبد الله آل حميد الجزء الثالث: د هشام بن إسماعيل الصيني، الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1429 ه - 2008 م، (1/ 154). 11. الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة، أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي، المحقق: محمد رضوان الداية، الناشر: دار الفكر - دمشق - سور