لو أن إنسانًا خير أن يعمل شهرًا واحدًا براتب ألف شهر ثم رفض ذلك لعد ذلك منه نقصًا في العقل والتدبير فكيف والوعد من الله تعالى {ولن يخلف الله وعده} {إن الله لا يخلف الميعاد}. لقد فقه هذه الحقيقة السلف الصالح ومنهم الخطيب الشربيني رحمه الله صاحب مغني المحتاج في شرح المنهاج وصاحب التفسير فقد ورد في ترجمته أنه كان يدخل المسجد في أول ليلة من رمضان فلا يخرج إلا بعد صلاة العيد. لقد كان رحمه الله حريصًا على ألا يضيع لحظة واحدة من عمره في غير طاعة الله . (خاصة في هذا الشهر المبارك وحتى يتحقق من إدراك ليلة القدر) قال الحسن البصري رحمه الله عن شهر الصيام «إن الله تعالى قد جعل رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا فالعجب للضاحك في اليوم الذي فيه المسرعون وخاب فيه الباطلون، فالله عباد الله اجتهدوا في أن تكونوا من السابقين ولا تكونوا من الخائبين في شهر شرفه رب العالمين» . وفي تفسير الحافظ بن كثير عن مجاهد أن النبي ص ذكر رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر قال: فعجب المسلمون من ذلك قال: فأنزل الله عز وجل {إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر} التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حكام بن مسلم عن المثنى بن الصباح، عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، ففعل ذلك ألف شهر فأنزل الله هذه الآية {ليلة القدر خير من ألف شهر} قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس أخبرنا بن وهب، حدثني مسلمة بن علي عن علي بن عروة قال: ذكر رسول الله ص يومًا أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عامًا، لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون قال: فعجب أصحاب رسول الله ص من ذلك فأتاه جبريل فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فقد أنزل الله خيرًا من ذلك فقرأ عليه {إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر} هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك، قال: فسر بذلك رسول الله ص والناس معه. وقال سفيان الثوري: بلغني عن مجاهد ليلة القدر خير من ألف شهر قال: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر، رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبوزرعة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة عن ابن جريج عن مجاهد: ليلة القدر خير من ألف شهر ليس في تلك الشهور ليلة القدر، وهكذا قال قتادة بن دعامة والشافعي وغير واحد، وقال عمرو بن قيس الملائي: عمل فيها خير من عمل ألف شهر، وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر هو اختيار ابن جرير، وهو الصواب لا ما عداه وهو كقوله ص: «رباط ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة فيما سواه من المنازل» رواه أحمد، وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة، ونية صالحة أنه يكتب له عمل سنة أجر صيامها وقيامها إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن ابراهيم، حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضر رمضان قال رسول الله ص: «قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم» رواه النسائي من حديث أيوب به. ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول ص قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» وقوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيمًا له، وأما الروح فقيل المراد به ههنا جبريل عليه السلام، فيكون من باب عطف الخاص على العام وقيل هم ضرب من الملائكة. ويقول العلامة ابن سعدي في تفسيره وسميت ليلة القدر لعظم قدرها وفضلها عند الله ولأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الأجل والأرزاق والمقادير القدرية. ثم فخم شأنها وعظّم مقدارها فقال {وما أدراك ما ليلة القدر} ثم قال {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي تعادل في فضلها ألف شهر فالعمل الذي يقع فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها وهذا مما تتحير فيه الألباب وتندهش له العقول حيث منَّ الله تعالى على هذه الأمة الضعيفة القوةَ والقوى بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمر عمرًا طويلًا نيفًا وثمانين سنة {حتى مطلع الفجر} أي مبتدأها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر وتواترت الأحاديث في فضلها وأنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر منه خصوصًا في أوتاره وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف ويكثر من التعبد في العشر الأواخر من رمضان رجاء ليلة القدر والله أعلم. وقال العلامة ابن رجب الحنبلي عن ليلة القدر يا ليلة القدر للناس اشهدي، ويا أقدام القانتين اركعي لربك واسجدي ويا ألسنة السائلين جدي في المسألة واجتهدي. يا رجال الليل جدوا رب داع لا يرد ما يقوم الليل إلا من له عزم وجد ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم وقربه، وإنما يفرون من ليالي البعد والهجر. واختلف في ليلة القدر والحكمة في نزول الملائكة في هذه الليلة أن الملوك والسادات لا يحبون أن يدخل دارهم أحد، حتى يزينوا دارهم بالفرش والبسط، ويزينوا عبيدهم بالثياب والأسلحة، فإذا كان ليلة القدر أمر الرب تبارك وتعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض، لأن العباد زينوا أنفسهم بالطاعات بالصوم والصلاة في ليالي رمضان، ومساجدهم بالقناديل والمصابيح فيقول الرب تعالى: أنتم طعنتم في بني آدم وقلتم {أتجعل فيها من يفسد فيها} (البقرة: 30) فقلت لكم: {إني أعلم ما لا تعلمون} (البقرة: 30) اذهبوا إليهم في هذه الليلة، حتى تروهم قائمين ساجدين راكعين، لتعلموا أني اخترتهم على علم على العالمين. قال مالك، بلغني أن رسول الله ص أري أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر. وقال النخعي: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ص قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه». والعبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات، والاجتهاد في الأعمال الصالحات، وكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى. وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى} (الليل: 5-10) فالمبادرة إلى اغتنام الشهر، فعسى أن يستدرك به ما فات من ضياع العمر. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالًا من أصحاب النبي ص أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر. فقال رسول الله ص «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر». وفي صحيح مسلم عنه عن النبي ص قال: «التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي». والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وكان يأمر بالتماسها في أوتار العشر الأواخر من رمضان، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي ص قال «التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى». وهذا مما يستدل به من رجح ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين على ليلة إحدى وعشرين، فإن ليلة إحدى وعشرين ليست من السبع الأواخر بلا تردد. وقد روي عن النبي ص من وجوه أخر أنه بين أنها ليلة سبع وعشرين. واختلف في أول السبع الأواخر فمنهم من قال: أول السبع ليلة ثلاث وعشرين على حساب نقصان الشهر دون تمامه لأنه المتيقن، وروي هذا عن ابن عباس وفي صحيح البخاري عن بلال قال: إنها أول السبع من العشر الأواخر. وقد روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه أنكر أن تحسب ليلة القدر بما مضى من الشهر وأخبر أن الصحابة يحسبونها بما بقي منه، وهذا الاحتمال إنما يكون في مثل قول النبي ص: «التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة». وقد خرجه البخاري من حديث عبادة رضي الله عنه. وقد اختلف الناس في ليلة القدر اختلافًا كثيرًا، فحكي عن بعضهم أنها رفعت وحديث أبي ذر يرد ذلك. وروي عن محمد بن الحنفية: أنها في كل سبع سنين مرة، وفي إسناده ضعف، وقال الجمهور: في رمضان كل سنة، ثم منهم من قال: هي في الشهر كله، وحكي عن بعض المتقدمين أنها أول ليلة منه، وقال الجمهور هي منحصرة في العشر الأواخر واختلفوا في أي ليال العشر أرجى، فحكي عن الحسن ومالك أنها تطلب في جميع ليالي العشر أشفاعه وأوتاره. وقال الأكثرون: بل بعض لياليه أرجى من بعض، وقالوا: الأوتار أرجى في الجملة، ثم اختلفوا في أي أوتاره أرجى. وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا قال: يا رسول الله إني شيخ كبير عليل يشق علي القيام فأمرني بليلة يوفقني الله فيها لليلة القدر قال: «عليك بالسابعة» وإسناده على شرط البخاري. وإذا حسبنا أول السبع الأواخر ليلة أربع وعشرين، كانت ليلة سبع وعشرين نصف السبع، وقد استنبط طائفة من المتأخرين من القرآن أنها ليلة سبع وعشرين من موضعين: أحدهما: أن الله تعالى كرر ذكر ليلة القدر في ثلاث مواضع منها, وليلة القدر حروفها تسع، والتسع إذا ضربت في ثلاثة فهي سبع وعشرون. والثاني: أنه قال: «سلام هي » (القدر: 5)، فكلمة « هي» الكلمة السابعة والعشرون من السورة، فإن كلماتها كلها ثلاثون. قال ابن عطية: هذا من ملح التفسير لا من متين العلم، وهو كما قال. قال ابن رجب: واعلم أن جميع هذه العلامات لا توجب القطع بليلة القدر. وأما العمل في ليلة القدر فثبت عن النبي ص أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» وقيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة وقد أمر عائشة بالدعاء فيها أيضا. قال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحب إلي من الصلاة، قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق. انتهى ومراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي يكثر فيها الدعاء وإن قرأ ودعا كان حسنًا. وقد كان النبي ص يتهجد في ليالي رمضان, ويقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر، وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها والله أعلم، وقد قال الشعبي ليلة القدر: ليلها كنهارها، وقال الشافعي في القديم: أستحب أن يكون اجتهاده في نهارها، كاجتهاده في ليلها، وهذا يقتضي استحباب الاجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر ليله ونهاره والله أعلم. والمحبون تطول عليهم الليالي فيعدونها عدًا لانتظار ليالي العشر في كل عام، فإذا ظفروا بها نالوا مطلوبهم وخدموا محبوبهم. قالت عائشة رضي الله عنها للنبي ص: أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني». والعفو من أسماء الله تعالى، وهو المتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو فيجب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته، وكان النبي ص يقول: «أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك». وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر، لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملًا صالحًا ولا حالًا ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنبين المقصرين. قال يحيى بن معاذ: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو. إن كنت لا أصلح للقرب فشأنكم العفو عن الذنب كان مطرف يقول في دعائه: اللهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا فاعف عنا. ( انتهى كلامه ). والحاصل أن السعيد حقًا من يوفق إلى إدراك هذه الليلة المباركة، ومما لا خلاف فيه ولاشك ولا مرية أن من قام رمضان كله فقد أدرك ليلة القدر لا محالة ولهذا كان السلف الصالح منهم من يدخل المسجد من أول ليلة من رمضان ولا يخرج إلا بعد صلاة العيد كالخطيب الشربيني، وفي عصرنا هذا أعرف من يعتكف في المسجد الحرام أو يسكن بالقرب منه ليحيي ليالي رمضان كلها ولا يترك ليلة واحدة بل لا يترك فرضًا واحدًا لا يصليه خلف الإمام. اللهم بلغنا رمضان ووفقنا لصيامه وقيامه وتقبله منا واجعلنا وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وأبناءنا وبناتنا والمسلمين من عتقائك من النار ومن المقبولين. آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أضيف إليها ألف آمين