من المتداول اليوم بيننا في المغرب أن الموسيقى الأندلسية أو ما يعرف بموسيقى الآلة تعيش أزمات حقيقية على مستويات عدة. وتتمثل بعض المشاكل التي يتخبط فيها هذا النوع الموسيقي العريق في عزوف الشبان عن مزاولتها وممارستها إلا فئة قليلة منهم، وفي ضياع بعض "صنائعها" في ظل تواترها الشفهي الذي امتد لقرون طويلة، ثم في محاولة الكثير من الموسيقيين العصريين إدخال تحديثات آلية وصوتية وهارمونية عليها؛ مما يزيد في إبعادها عن أصولها الحقيقية. وفي صدد محاولات الحفاظ على الموروث المغربي الأصيل انصبت جهود بعض الموسيقيين المهتمين بهذا النوع من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، حيث صدرت ومازالت تصدر مؤلفات عديدة تطمح إلى أن تعطي لهذه الموسيقى حقها الواجب. في هذا المقام أخص بالذكر كتاب "الموسيقى الأندلسية: التاريخ. المفاهيم. النظرية الموسيقية" (2011) للأمين الشعشوع، وكتاب أخيه المهدي الشعشوع، "ديوان الآلة. نصوص الموسيقى الأندلسية المغربية" (2009)،وكتاب "الموسيقى المغربية الأندلسية- فنون الأداء " (1988) لعبد العزيز بن عبد الجليل، وغيرها من المؤلفات التي تبحث في موسيقى الآلة ذات الجذور الإيبيرية العريقة. وفي نفس سياق الحفاظ على هذا الفن ازدهت في المدة الأخيرة الخزانة الموسيقية المغربية بكتاب في غاية الأهمية والعمق. إنه الجزء السادس من سلسلة نوبات الموسيقى الأندلسية المدونة بالنوتة الموسيقية. ويتعلق الأمر بنوبة الإصبهان؛ واحدة من النوبات الأندلسية الإحدى عشرة التي تكفل بمهمة تدوينها الأستاذ يونس الشامي وفقا لرواية وأداء المرحوم الشيخ أحمد البزور التازي . يحتوي الكتاب على مقدمتين؛ الأولى للدكتور عبد الهادي التازي، والثانية للأستاذ يونس الشامي. بعدهما نقرأ سيرة للشيخ أحمد البزور التازي: معلموه الذين درس على أيديهم، وخدماته الجليلة التي أسداها للتراث الموسيقي الأندلسي، وأنشطته الموسيقية، وجهوده من أجل توثيق الموسيقى الأندلسية. ليعرج المؤلف بعد ذلك للتعريف ب"نوبة الاصبهان"، ثم تقديم دراسة تحليلية ومقارنة بين "طبعي" الإصبهان والزوركند: في الموسيقى الأندلسية المغربية، وفي الموسيقى الجزائرية، وفي المألوف التونسي والليبي، وفي بلدان الشرق الأوسط. بعد ذلك ينتقل الأستاذ الشامي إلى تدوين نوبة الإصبهان من خلال ميازينها الخمسة: البسيط، القائم ونصف، البطايحي، الدرج، القدام. وتجدر الإشارة إلى أن هذه النوبة تم تدوينها سابقا من قِبل الباحث الإسباني أرْكادْيُو دي لاريا بلاثين Arcadio De Larrea PalacÍn، في كتاب عنوَنه ب"نوبة الإصبهان Nuba isbahan"، وقد تم نشره سنة 1956 من لدنInstituto General Franco de estudios e investigaciones hispano Árabe. Editoria MarroquÍ-Tetuàn. ويتضمن مؤلَّف أركادْيو مقدمةً عن هذه النوبة: مفهومها، وطبوعها، وميازينها، وطريقة عزفها، ثم ترجمة نصوصها الشعرية إلى الإسبانية، مع محاولة كتابة النصوص العربية المصاحبة للجمل اللحنية بحروف لاتينية. واضح أن محاولات تدوين الموسيقى الأندلسية بطريقة علمية مضبوطة أمر في غاية الأهمية والصعوبة. هو اجتهاد من بين الاجتهادات الفنية الأخرى الرامية إلى المحافظة على هذا التراث الذي أصبح مهددا بالضياع والاندثار. يقول المؤلف: لنضرب لذلك مثلا بتلك «الصنائع الطويلة ذات الحركة البطيئة التي أضحت اليوم مهجورة، لا يقبل على سماعها إلا جمهور ضيق من عشاق هذه الموسيقى، إذ صار الذوق العام يسير أكثر فأكثر إلى الاستماع إلى الصنائع الخفيفة، ذات الحركة السريعة أو الراقصة، الأمر الذي يهدد قسما هاما من هذا التراث بالنسيان». ص 7. إنه سبب من الأسباب التي جعلت الأستاذ يونس الشامي يحرص أشد الحرص على تدوين "نوبة الإصبهان" ومن قبلها خمس نوبات أخرى وهي: 1- نوبة رصد الديل، وفق رواية وأداء الشيخ أحمد البزور التازي 2- نوبة رمل الماية، وفق رواية وأداء الشيخ أحمد الزيتوني الصحراوي 3- نوبة العشاق، وفق رواية وأداء الشيخ مولاي أحمد الوكيلي 4- نوبة الرصد، وفق رواية وأداء الشيخ مولاي أحمد الوكيلي 5- نوبة الماية، وفق رواية وأداء الشيخ أحمد الزيتوني ومن بين الأمور الأخرى التي تُعَرِّض هذا النوع الموسيقي إلى الضياع والتي جعلت الأستاذ يونس الشامي يحرص على تدوينه سمةٌ من سماته الطريفة المتمثلة في العزف من دون مصاحبة أوراق المدونات الموسيقية يقول في هذا الصدد الدكتور عبد الهادي التازي في مقدمة هذا المؤلَّف: إن«الأجانب يطربون لما يسمعونه، ويستغربون في ذات الوقت من كون هؤلاء "الآليين" يؤدون موسيقاهم دونما حاجة إلى مدوناتها الموسيقية، لاعتمادهم الكلي في ذلك على قوة حافظتهم فقط، وهذه ظاهرة كانت ولازالت شائعة بيننا، تعودنا عليها فلم يعد ينتبه إليها أحد، في حين أنها تبعث على الدهشة والاستغراب في المجتمع الغربي لكون تلك المدونات تعد من وسائل العمل التي لا تفارق الموسيقيين، ويصعب عليهم الاستغناء عنها أثناء تقديم عروضهم الفنية» (ص 3) ويشير يونس الشامي في مقدمة كتابه إلى عناصر أخرى عديدة جعلته يقْدم على مشروعه الضخم، من بينها: إدخال الآلات التي صممت لأداء أنواع أخرى من الموسيقى الغربية، وأداء المواويل التي لا تمت للموسيقى الأندلسية بصلة، ثم إخضاعها لعلم توافق الأصوات أو الهارمونية. وإذا ما ضممنا العناصر السالفة الذكر إلى بعضها نجد أنفسنا إزاء إشكالات حقيقية من شأنها أن تدعونا إلى صياغة الأسئلة الآتية: كيف يمكن أن نقرّب شبان اليوم إلى هذا النوع الموسيقي؟ وكيف نحبب الناس عامة في الصنائع "الموسعة" مثلا؟ ولماذا يستمر الغربيون في الاستماع والاستمتاع بالسمفونيات والأوبرات رغم طولها وفلسفة معانيها المعقدة؟ ألا يجدر بنا البحث والاستفادة من طرقهم وتأملها من أجل الحفاظ على التراث كيفما كان نوعه وشكله؟ وهل تسهم الكتب المدونة للموسيقى من قبيل "نوبة الإصبهان" في محاولة حل هذه الإشكالات الفنية المعاصرة، ومن ثم تقريب الموسيقى الأندلسية من عموم الناس؟ قد تبدو هذه الأسئلة صعبة الإجابة، لكننا نعلق الأمل على تظافر الجهود المختلفة من أجل إيجاد حل لإشكال الموسيقى الأندلسية راهنا. ولعل المجهود المتميز المتمثل في هذا الكتاب أن يدعونا إلى الارتقاء بهذا النوع الموسيقي إلى مستوى الدرس الجامعي، وهو ما نفتقده في المغرب في ظل غياب كليات التربية الموسيقية، شأن بعض البلدان العربية الأخرى كمصر، وتونس، والأردن، وغيرها. إن من شأن هذا الاقتراح أن يفتح أمام موسيقانا المغربية أبواباً ومرافئ فسيحة، وأن يجعل تراثها يُتداول من لدن فئات عريضة لها تكوين فني أكاديمي عال، وأن ينزعها من أيدي بعض المتطفلين الذين لا يزيدونها إلا تدهورا. ليس ذلك فحسب، فمجهود الكتاب الذي نقدمه يعطي لهذا النوع الموسيقي أفقا منفتحا على العالم العربي والغربي معا، حيث ستسهل النوطة الموسيقية قراءة الموسيقى الأندلسية وعزفها من قبل أجواق تحمل هويات ثقافية وفنية مختلفة. إضافة إلى أن كتابا مثل "نوبة الاصبهان" يفتح الآفاق على "نقد موسيقي" مواكب ومتخصص، من شأنه أن يسهم في الحفاظ على موسيقانا الأندلسية. ختاما أوجز فأقول إن "نوبة الإصبهان" كتاب مدونات موسيقية، فيه مجهود علمي وفني رصين يحسب لصاحبه الأستاذ يونس الشامي ولعموم المكتبة الموسيقية المغربية. إني أعتبره دعوة إلى كل الممارسين، والمولعين، والمتخصصين للاستفادة منه، وحافزا لهم من أجل التأمل في واقع الموسيقى الأندلسية المواجه لتحديات الحداثة وعصر العولمة.