في الوقت الذي اضطرت فيه بلدان جارة إلى الرفع من الأجور تحت ضغط الشارع (فرنسا) والمبادرة إلى تحسين الأوضاع المادية احترازا من انتقال عدوى احتجاجات "السترات الصفراء" (إسبانيا)، ظلت قاطرة الحوار الاجتماعي "معطلة" غير مكترثة بامتداد رقع الاحتجاج واتساع مساحات الاحتقان وسط فئات عريضة من الشغيلة، كان آخرها الإضراب الوطني الوحدوي الذي انخرطت فيه كل فئات الشغيلة التعليمية يوم الخميس الثالث من الشهر الجاري، مما أنذر وينذر ليس فقط بشتاء تعليمي ساخن، ولكن بموسم دراسي عنوانه البارز"الاحتقان" و"الاحتجاج"في سبيل الكرامة وإعادة الاعتبار، إذا لم يتم الطلاق بشكل لارجعة فيه مع سياسات "الآذان الصماء" و"التسويف'' و'"المماطلة" وفتح قنوات الحوار والتشاور والتشارك في سبيل تنزيل"نظام أساسي" عصري قادر على التعبير على مختلف المطالب والانتظارات الفئوية للشغيلة التعليمية، تعزيزا للسلم الاجتماعي المدرسي وإنقاذا لمدرسة عمومية تعيش على وقع الإصلاح ... إضراب وطني وحدوي انخرطت فيه كل الهيئات النقابية والتنسيقيات المهنية، أتى بعدما وصل"الحوار الاجتماعي" إلى حالة من العبث المكرس لليأس والإحباط وفقدان الثقة في الحكومة، وفي الوقت الذي كانت فيه الشغيلة في القطاعين العام والخاص تعلق مطالبها على الدعوة التي حملها خطاب العرش الأخير إلى الفرقاء من أجل الإسراع بإنجاح الحوار الاجتماعي، والتوافق قصد بلورة "ميثاق اجتماعي متوازن ومستدام، بشكل يضمن تنافسية المقاولة ويدعم القدرة الشرائية للطبقة الشغيلة بالقطاعين العام والخاص"، توقفت جولات الحوار الاجتماعي على رتابتها، بعد انسحاب النقابات الأكثر تمثيلية احتجاجا على ضعف ومحدودية العرض الحكومي، وتمت المصادقة النهائية على مشروع القانون المالي لتظل المطالب الاجتماعية وفي مقدمتها الرفع من الأجور، معلقة إلى أجل غير مسمى، وليظل "الاحتقان" سيد الموقف في مشهد سياسي بعيدا كل البعد عن نبض الشعب، وواقع اجتماعي يزداد تعقيدا في ظل ارتفاع الأسعار وصعوبات العيش وانتشار ثقافة اليأس والتذمر وانسداد الأفق وفقدان الثقة ...
بعد الإضراب الوطني الوحدوي التعليمي الذي عكس حجم الخصاص والمطالب والتطلعات وسط الأسرة التعليمية، كان من المفروض أن تتحرك الإرادة الحكومية بما يلزم من السرعة والاستجابة، كما حدث في الاجتماع التاريخي الذي كرس الساعة المثيرة للجدل، حرصا على السلم الاجتماعي، خاصة في قطاع حيوي واستراتيجي من قبيل التعليم، لكن "دار لقمان" ظلت على حالها بشكل أشبه بحمار الشيخ الذي توقف عند العقبة دون اكتراث لما يجري حوله، فلا هو تقدم إلى الأمام ولا هو تراجع إلى الخلف، وهو تصوير يحيل على تعطل حركة الحوار الاجتماعي في مياه حبلى بالاحتقان واليأس والاحتجاج، وفي ظل واقع" البلوكاج" الاجتماعي بين "الحكومة" و"النقابات"، لاحت في الأفق دعوة وجهها وزير الداخلية إلى قيادات النقابات الأكثر تمثيلية إلى اجتماع مقرر يوم الأربعاء التاسع من الشهر الجاري، دون تقديم أية معطيات لا حول موضوع الاجتماع ولا حول جدول أعماله، مما يفتح عددا من الأسئلة حول هذا "الاجتماع" الذي جاءت الدعوة إليه مباشرة بعد الإضراب الوطني التعليمي الذي شل مختلف المؤسسات التعليمية العمومية يوم الثالث من الشهر الجاري، من قبيل دخول "وزارة الداخلية"على خط "الحوار الاجتماعي"عوض قناة "رئاسة الحكومة"، وهل مبادرة "وزير الداخلية" جاءت بإيعاز من "رئيس الحكومة" من أجل تيسير "سبل الحوار" مع النقابات المنسحبة، أم الأمر يتعلق بتعليمات أو إشارات موجهة إلى "الداخلية" من أجل تجاوز حالة"البلوكاج الاجتماعي" عقب ارتفاع منسوب الاحتقان، الذي أضحى يهدد السلم الاجتماعي ...
وفي إطار "الحق في المعلومة" كان من المفروض من رئاسة الحكومة أن توضح للرأي العام طبيعة الاجتماع المرتقب للنقابات مع وزير الداخلية وجدول أعماله، بدل ترك "مساحة إبهام" تزيد "الحوار الاجتماعي" غموضا وعبثا، وفي جميع الحالات، فالدعوة إلى "الاجتماع" تبقى أمرا محمودا في ظل تخييم سحب "البلوكاج" الاجتماعي في شتاء ساخن على غير العادة، ينذر بالمزيد من السخونة والحر، إذا لم تفك "عقدة البلوكاج" وتتحرك "قاطرة" الحوار الاجتماعي على سكة "المسؤولية" و"الجدية"، في أفق التوصل إلى نتيجة إيجابية من جعلها الدفع بتحسين القدرة الشرائية لفئات عريضة من الطبقة الشغيلة بالقطاعين العام والخاص، في ظل الارتفاع المهول للأسعار وغلاء المعيشة،مع الإسراع بتمتيع الشغيلة التعليمية بنظام أساسي عادل ومنصف يحفظ الكرامة ويرد الاعتبار ، ويحمي "جسد" المدرسة العمومية من "داء الاحتقان" كسبا لرهان الإصلاح ...
-كاتب رأي، أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك التأهيلي بالمحمدية، باحث في القانون وقضايا التربية والتكوين . [email protected]