الشاعر الدمشقي يتسلم مفتاح تطوان ويتحدث عن طفولته وقصيدته ورحلته من المشرق إلى المغرب شهدت مدينة تطوان نهاية الأسبوع الماضي لقاء تاريخيا مع الشاعر الدمشقي نوري الجراح، الذي حل ضيفا على دار الشعر بتطوان. واحتفى فنانو المدينة، وطلبة المعهد الوطني للفنون الجميلة بالديوان الأخير للشاعر "قارب إلى لسبوس" وقدموه في أعمال ولوحات تشكيلية، وفي عروض مسرحية شاعرة، بإشراف الفنان التشكيلي حسن الشاعر. كما ألقى الجراح قصائده على إيقاعات عازف وشاعر العود الفنان المغربي إدريس الملومي، في حوار شعري موسيقي تابعه مئات الحاضرين الذين قدموا لمتابعة الأمسية الأخيرة والكبيرة للشاعر نوري الجراح في المغرب. وتسلم الشاعر نوري الجراح مفتاح مدينة تطوان من يد الأستاذة حساء داود ابنة مؤرخ تطوان محمد داود، مثلما تسلم عود تطوان من يد إدريس الملومي.
تحدث الشاعر السوري نوري الجراح عن سيرته الدمشقية وسيرته الأولى في العاصمة السورية مرورا بمختلف التجارب والمنافي الاضطرارية والاختيارية والشعرية التي مر منها عبر مساره الشعري والثقافي الطويل. وقال الجراح، في ضيافة دار الشعر بتطوان، يوم الخميس 15 نوفمبر الجاري، في المسرح الكبير للمركز الثقافي بالمدينة، إنه غادر دمشق قبل ثلاثة عقود "بعيدا عن سريري الأول ومكتبتي الأولى وشارعي الأول والغيوم الأولى التي مرت في سماء مخيلتي اليافعة". وهنا، يتساءل الشاعر: "كيف للشعر أن يتولد بعيدا عن الطفولي؟"، معتبرا أن "الشعر هو وليد الحواس الأولى، وأنه يتشكل لدى الشاعر منذ يفاعته". لذلك، يرى الجراح أن "طفولته لم تغادر شعره، وإنما استوطنته، لأن المكان ابتعد وغار بعيدا في القصيدة. فأنا أعيش في القصيدة طفولتي وذاكرتي وحواسي". ويضيف الشاعر أن "دمشق من المدن الأبدية، ومن المدن الأولى في التاريخ التي شهدت ميلاد القصائد الأولى في ذاكرة الإنسانية". إنها كما يقول "مدينة أزمنة متعاقبة. وقد تعايشت آثار تلك الأزمنة في الصور التي رأيتها وملأت بصري وبصيرتي وحواسي. دمشق الآرامية، دمشق الرومانية، دمشق التي تركت أثارها في معالم خالدة. دمشقي التي عرفت الكثير من الأحداث الغابرة في الكتب الأسطورية. إذ أن هنالك تاريخا أسطوريا لدمشق". ويقول الشاعر إنه ولد "في حضن تلك المغارة التي قتل فيها قابيل هابيل"، ولذلك فهي مدينة البدء والبدايات. "هي أيضا المدينة التي استضافت البيروني وابن عربي وصولا إلى الأمير عبد القادر الجزائري الذي لاذ بالمدينة إثر فشل ثورته. إذ كل هؤلاء صاروا دمشقيين، لتكون دمشق مدينة مفتوحة عبر التاريخ لكل من يصل إليها وفي خياله وفكره مشروع ما". وعن ابن عربي، حيث يوجد قبر المتصوف الأندلسي قريبا من بيت الشاعر في دمشق، يكشف الجراح أن صاحب الفتوحات المكية قد "كتب أعظم أعماله في دمشق، وهو شيخنا في العائلة. وعندما كنا نمرض كانت أمهاتنا يأخذننا إليه ويقرأن القرآن علينا في ضريحه".
اللجوء إلى بيروت عن هجرته إلى لبنان في بداية الثمانينيات، يؤكد الشاعر أنه إنما خرج إلى بيروت "خروج الباحث عن الهواء، والهارب من سياط الطغيان الذي سرعان ما تفشى إلى أن أهلك الحجر والبشر والهواء خلال سنوات الثمانين المنصرمة". ويكشف الشاعر أنه إنما وصل بيروت بحقيبة فيها كتابان أو ثلاثة من الكتب التي تركها في دمشق، ومعه، أيضا، قميص وبعض الأوراق، ومخطوط لكتاب شعري هو ديوانه الأول الذي سينشر لاحقا باسم "الصبي". وهو الديوان الذي كتبت جل قصائده في دمشق. سوى أن هذه القصائد لم تكن كل شعره الذي كتب في سوريا. "في بيروت كنت لاجئا سوريا في خيمة فلسطينية"، وهذا غري يعلق الشاعر، إذا "المألوف هو أن الفلسطيين هم الذين يهربون من الكيان الصهيوني نحو بلدان وخيمات عربية أخرى، مثل القاهرةوبيروت التي كانت ملاذا أوسع، "لأنها كانت مكانا فوضويا يوم وصلت إليها، وكانت تعيش نهايات الحرب الأهلية، مثلما كانت قاعدة للمقاومة الفلسطينية، ومكانا استقطب كبار الشعراء والمثقفين العرب الذين تمردوا على أنظمتهم". من هنا، كانت بحسب المتحدث "مختبرا ثقافيا وفكريا وكفاحيا". هكذا، وصل الجراح إلى بيروت " قبل عام من الاجتياح الإسرائيلي الذي أخرجت آلته العسكرية الماحقة المقاومة الفلسطينية إلى البحر. وكان ديواني الأول في ذلك العام في المطبعة قبل أن تصل الطائرات وتقصف بيروت". خلال، يقول نوري الجراح "حملت السلاح كما حمل الكثيرون السلاح لمواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية، وكنا جزءا من معركة أخيرة، وعرفنا أنها معركة أخيرة مع الإسرائليين. ولكننا كنا واجهنا الطغيان العربي وكنا نقرن هذا الطغيان العربي بالطغيان الصهيوني. ونحن لم نفرق بين الطغيان العربي والطغيان الإسرائيلي. الطغيان واحد، مجسدا في القتل والتعذيب والتشريد والسجن، وهو هو الهوية وليس هوية من يقوم به. وبالتالي، تتساوى الهوايات القاتلة". وعن تجربة بيروت، دائما، يضيف الشاعر أنها كانت "تجربة عظيمة رغم قصر الفترة الزمنية، لأنها كانت كثيفة، وأعطتني فرصة الاحتكاك بالتجارب الشعرية والأدبية والتشكيلية والسينمائية، وكل ما يشكل ثقافة الشاعر عادة". ويوضح الشاعر أن "بقايا التجارب الرائدة في السبعينيات والستينيات كانت قد أثمرت نصا شعريا ونثريا عربيا من خلال المطبعة البيرتية، ومن خلال الحركات والتجمعات، وكانت بيروت مدرسة أو مساحة وفضاء حرا، أكثر بكثير مما يحتمل الجوار العربي". ولذلك، أمكن القول مع نوري الجراح أن "الآلة العسكرية الإسرائيلية هي التي أنقذت الأنظمة العربية من هذه النخبة الفوضوية والنخبة المتمردة على النظام العربي كما كُتب لها أن تجتمع وتلتقي في بيروت". وعلاقة بهذه المفارقة، ينبهنا الشاعر إلى أنه لم يغادر بيروت غداة الاجتياح الإسرائلي، هو الذي غادر سوريا هربا من الآلة القمعية لنظام حافظ الأسد. وهو ليس حديثا في السياسة، يقول نوري الجراح، ولكنه "حديث في الأوراح المفقودة والمقبورة تحت التراب السوري". وعلاقة بذلك، فإن "نسل هذا الطاغية أنتج طاغية أفدح وأكثر جرائمية في حق سوريا والسوريين". وفي مفارقة أخرى، يرى الشاعر أن هذه الأنظمة القمعية العربية قد "أنتجت طاقة خلاقة لدى الشعراء في بيروت، "وأنا تعملت منهم، ومن كل شاعر نالني جمال منه، وشيء من التجارب الممتدة من مصر إلى فلسطين". وعلاقة بالقضية الفلسطينية والوعي بها منذ تلك الفترة، يخلص الشاعر إلى أن "قدرنا العربي كان فلسطينيا في ذلك الوقت، لكن هذا القدر الفلسطيني اقتلع تماما، وبدا من حينها أن الأمر سيكون أكثر فداحة، وهو ما تأكد لاحقا".
اللجوء إلى الشعر هكذا تعلم الشاعر الدمشقي من بيوت أن الشعر يجب أن يكون "في خندق الدفاع عن الحرية وخندق الدفاع عن الإنسان". ومع أن الشاعر إنما قدم من خلفية اليسار كما يقول، إلا أن فكرة اليسار أجهضت اليوم، "فتحولنا جميعا إلى أشخاص يؤمنون بالجمال والحق والحرية. وكم يبدو أننا عدنا إلى الوراء، ولكننا في الحقيقة إنما نتموقع في الأمام، لأننا اكتسبنا هذه الخلاصة من كل الأفكار الإنسانية الراقية والعالية ومن الفكر الجمالي الذي يشيع الأدب والفن والكتابة التي تحمل رؤية ونظرة إلى المستقبل". ثم عن مشروع كتابة القصيدة، يقول الشاعر إنه لم يسبق له أن كتب القصيدة مرتين بطريقة واحدة. فكل مرة كانت القصيدة تُكتب وتنكتب ويكتبها الشاعر. لأن "الشعر يداهم الشاعر، وليس هو الذي يقرر كتابته. بينما القصيدة هي صوت الشاعر، وبيت الشاعر، ومدينته، وسماء خياله".
اللجوء إلى المغرب عن علاقته بالمغرب، يقول نوري الجراح إنه ابن الثقافة العربية. غير أنه لم يستوعب معنى كونه مشرقيا إلا "عندما وصلت المغرب. لأن المغرب أعاد لي صورتي الأولى بأجمل مما كنت أعرفها... وأنا زوجتي مغربية وابنتي مغربية وأخوالها مغاربة. المغرب أعطاني هذه المسافة لأتعرف طبيعتي وهويتي كمشرقي. لأن المغرب يرى المشرق جميلا جدا، ومهبط الأنوار ومصدر المعرفة، أي مصدر تجارب فكرية اغتنى منها المغرب، ثم عاد فأغناها طبعا". وهنا، سجل الجراح مفارقة أخرى، حين يؤكد أن "المغاربة يعرفون عنا نحن المشارقة أكثر بما لا يقاس بما نعرفه عنهم". خلال لقاء تطوان الاستثنائي، تحدث الشاعر نوري الجراح إلى جمهور المغرب عن مجموعة من القضايا الأخرى، ومنها قضية الرحلة باعتبارها انشغالا مركزيا ضمن انشغالات واهتمامات الجراح، وهو مدير المركز العربي للأدب الجغرافي، ومدير جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة. واستحضر الجراح كون المغرب منطلقا لأهم الرحلات الإنسانية الكبرى، منذ الرحلة التاريخية لابن بطوطة، وغيرها من الرحلات الحجازية والسفارية وسواها من مدونات أدب الرحلة والأدب الجغرافي بشكل عام. ولما كان الشاعر يتحدث في تطوان وانطلاقا منها، فقد أكد أن هذه المدينة التي تأسست غادة سقوط غرناطة ورحلة المورسكيين إلى المغرب، إنما هي نتاج رحلة جماعية بهذا المعنى. وعن علاقة الشعر بالرحلة، مرة أخرى، يؤكد الرجل أن كل الشعر العربي قد تحدث عن الرحلة، من امرئ القيس إلى الشاعر العربي المعاصر المغترب، وأن كل قصيدة إنما هي ثمرة رحلة متخيلة أو حقيقية. كما تحدث نوري الجراح عن ولعه وشغفه بإصدار وتحرير المجلات الثقافية والأدبية، منذ مجلة "فكر" في بيروت، ومجلة "الناقد" ومجلة "الكاتبة" ثم مجلة ومجلة "الرحلة"، ومجلة "دمشق" ومجلة "الرابطة الأدبية"، ومجلة "الجديد" الآن، يؤكد نوري: "أنا مولع بصناعة المجلات، وأحب هذا منذ طفولتي، حيث كنت أشتري المجلات من الرصيف". وهو يعتبر المجلات منابر ومسارح لإنتاج الثقافة العربية، باعتبار أن "أغلب ما نشر في الكتب في الثقافة العربية كان قد أُنتج في المجلات. وعلى أساس أن للمجلات في كل الثقافات الإنسانية "دور في تشكيل الوعي والمعرفة. فالمجلات كانت هي المنابر التي تحركت فيها الثقافة العربية وتمازجت وتصارعت"، ليخلص إلى أن المجلات، سواء في الثقافة العربي أو في الثقافات الأخرى، "كان لها دور أساس في تاريخ الأدب وفي تاريخ الوعي والمعرفة وربط الناس بها". كما أوضح الجراح أن حرصه على إصدار المجلات الثقافية إنما يعود إلى حرصه على إتاحة منبر أمام ما يكتب ولا يجد له منبرا للنشر. وهو ما يندرج ضمن خوض صراع ثقافي دائم ومستمر من أجل إعلاء صوت الجديد مقابل الصوت القائم والراهن. وسواء تعلق الأمر بالكائن العري نوري الجراح، أم تعلق بعيه النقدي، أو اهتمامه الأكاديمي بأدب الرحلة، أو ولعه الثقافي بإصدار المجلات الثقافية والأدبية، فهو إنما أنجز هذه العمال والمشاريع الثقافية والفكرية والأدب بروح الشاعر دائما. وألقى الشاعر نوري الجراح قصائد شعرية من دواوينه الأخيرة، وهي نصوص وملاحم شعرية تمثل أقصى ما بلغته شعريته الخاصة، على امتداد تجربته الزاخرة، ليختم لقاء تطوان التاريخي بقراءة قصيدة "أكتب قلبي: تنويمة من أجل طفل"، وفيها يردد وينشد: نمْ يا حبيبي نمْ/ رجعَ الجُناة من السّماء/ وتُركتْ لي/ وتراً تقطَّع في قيثارةٍ ونغمْ/ نمْ يا حبيبي نمْ./ رَشْحُ دمٍ في مِعصمي/ وفي خَرير الماء.../ نمْ في المغارةِ/ لا تخفْ صَمْتَ المساء./ نمْ يا حبيبي نمْ/ ماتت مخيلتي وأهدتني السماء/ عدوَّةً، والنَّهْرَ مسموماً وآلهتي رمادْ. نمْ في جناحِ الطَّائرِ المكسور/ ونمْ في الصُّورْ/ نمْ يا حبيبي نمْ. نمْ في نزيفِ النَّهْرِ، وفي عراءِ الأرض/ نمْ في العَطَش/ ونمْ في وردةِ البيتِ اليتيمةِ نَمْ/ وتذكر كلماتِ الأُغنية. نمْ، وتذكَّرْ حائطَ الذِّكْرى/ وشمسَ الأمنيةْ/ نمْ يا حبيبي نمْ/ نمْ عندَ سَفْحِ الجَبَلِ/ نَمْ وتَرَقَبْ نجمةَ الزَّمنِ الجديدْ. نمْ يا حبيبي نمْ.