نقاشات واسعة وجدل مستمر حول مستقبل الصحافة الورقية فى عالمنا العربي، وأخص عالمنا العربي، لأن المسألة حسمت منذ سنوات مضت فى الغرب، حيث أقر الجميع بنهاية عصر الصحافة الورقية بكل مالها وماعليها. الجدل فى عالمنا العربى مستمر ونابع بالأساس من معطيات لا علاقة لها بالواقع، فهناك من يتحدث عن ضعف معدلات انتشار الانترنت فى معظم الدول العربية وتزايد الاعتمادية على الصحافة الورقية، وهناك من يرى أن الأخيرة لا تزال تمتلك فرصة لتطوير نفسها والاستمرار فى المنافسة لسنوات قادمة واضعاً شروط عدة لذلك، بينا يرى فريق ثالث أن هناك ما يسميه مرحلة انتقالية تواصل فيها الصحافة الورقية الاحتفاظ بدورها ووجودها! اكتب هذا المقال لسبب مهم فى عالم الصحافة، وهو إعلان صحيفة "الحياة" العريقة عن اغلاق مكتبها فى لبنان بعد توقف طبعتها الورقية فى بيروت "جراء أسباب مالية" كما هو معلن، بحيث تتحول النسخة الدولية إلى الصدور عبر الانترنت فقط، بينما تبقى النسخة السعودية للصحيفة على حالها وتطبع فى دبي. هذا الإعلان يأتى بعد توقف جريدة ذات تأثير عربى إعلامى كبير هى "السفير" عن الصدور نهاية عام 2016 جراء مصاعب مالية بعد 42 عاماً من تأسيسها، ووسط جدل كبير حول ارقام توزيع الصحف فى دولة ذات كثافة سكانية كبيرة مثل الشقيقة مصر، التى يتردد أن أرقام توزيع الصحف الصادرة فيها لم تعد تتعدى 350 ألف نسخة فى عام 2016 نزولاً من 5ر3 مليون نسخة عام 2000، أى نحو 10% فقط من حجم التوزيع السابق بحسب ما ذكر د. عبد المنعم سعيد رئيس مجلس إدارة صحيفة "المصرى اليوم" الحالى ورئيس مجلس إدارة مؤسسة "الأهرام" الأسبق. إشكالية العالمين فى الصحف الورقية أنهم يرفضون مبدئياً فكرة اختفاء هذا النوع من الصحف، ويراهنون على شريحة نادرة من القراء الحريصين على عاداتهم فى قراءة الصحف الورقية، ويراهنون على القارئ التقليدى والاعلانات، وهما رهانان فى طريقهما إلى الزوال تدريجياً، فهذا القارئ سيختفى فى غضون السنوات العشر المقبلة على اقصى تقدير فى ظل وتيرة تسارع تكنولوجيا المعلومات وآليات وانماط تداول المعلومة والخبر وانتقالهما بحيث لم يكون هناك مجال للصحافة الورقية، أما الإعلانات فستختفى من الصحافة الورقية فى ظل عدم فاعليتها وما يحدث الآن من استمرار لهذا النوع من الإعلانات فى الصحف الورقية ناجم عن غياب الدراسات والأرقام الموثوقة للتوزيع الحقيقى للصحف ومعدلات المقروئية فضلاً عن أسباب أخرى لا علاقة لها بالتنافسية وغير ذلك. الواقع أن الاعلام لم يعد مرتبطاً بوسائل تقليدية، والتغير الحقيقى يحدث نوعياً فى فكرة الاعلام وتداول المعلومة ذاتها، فلم يعد الاعلام حكراً على الإعلاميين، الذين باتوا يستقون معلوماتهم من "السوشيال ميديا" فى ظل انتشار فكرة "المواطن الإعلامي" وتحول كل مشارك عبر الانترنت و"السوشيال ميديا" إلى مراسل ومصدر للخبر والمعلومة ، وتحولت المواقع الإخبارية فى معظمها إلى مجرد ناقل وصدى لما ينشر عبر الوسائل الجديدة، واختفى دور صانع الخبر التقليدى وانتقلت دفة القيادة إلى الجمهور الذى بات أكثر قدرة على تلبية رغبات بعضه البعض للتعرف إلى المعلومة الجديدة ، وبات من الصعب على وسائل الاعلام التقليدية منافسة هذا النمط الجديد من تداول المعلومات والأخبار، واستسلمت للامر الواقع وتحولت إلى نمط إعلامى جديد لم يتبلور بعد ويتمثل فى تجميع ما ينشر عبر السوشيال ميديا من "تغريدات" و "بوستات" وصور عبر "انستجرام" وغير ذلك من وسائل ! هذا النمط الإعلامى سيختفى أيضاً لأن الاعلام الجديد يطور نفسه عبر آليات ذاتية مبتكرة بوتيرة متسارعة للغاية تجعل من الصعب القول بأن مأسسة الاعلام يمكن أن تصبح رهاناً مستقبلياً، فالإعلام بات للأفراد بجدارة، ومن الصعب القول بأن هناك توجه نحو الاعتماد على مؤسسات إعلامية ضخمة كالتى كانت فى السابق، ما لم يطرأ عليها تحولات تراعى وتأخذ بالاعتبار أنماط الاعلام الجديد وتحولاته. الاعلام التقليدى (الفضائيات والاذاعات تحديداً) قد يواصل العمل والانتشار والتأثير لسنوات قادمة غير معلومة، ولكن المؤكد أن الصحافة الورقية انتهى دورها أو فى أحسن التقديرات تلفظ أنفاسها الأخيرة، ومن ثم يجب التفكير من الآن فى تطوير الصحافة الالكترونية حتى لا نتخلف عن ركب التقدم فى هذا المجال الواعد الذى يمثل رهاناً مستقبلياً، وعلينا ألا "ننسخ" هياكل التطوير التقنى من الغرب، لأن التجربة والمعطيات ومتطلبات الجمهور ونوعيته مختلفة تماماً، وعلينا أن نجرى الدراسات المنهجية اللازمة لاحتياجات الجمهور الإعلامية وندرس تفاصيل التنافسية الإعلامية جيداً كى تعبر أى تجربة تطوير إعلامية جديدة عن الاحتياجات الحقيقية لكل مجتمع لا أن تواكب فقط ما يحدث عالمياً من دون تلبية الاحتياجات الحقيقية للجمهور المستهدف!