من جملة ما تضع حكومات العالم المتحضر في قلب اهتماماتها، العناية بالأستاذ ماديا ومعنويا، لأداء مهامه على الوجه المطلوب. غير أن حكوماتنا المتعاقبة مازالت لم تدرك بعد قيمة هذا "الرسول"، وتأبى إلا أن تسقط فشل سياساتها عليه، حيث لم يعد المسؤولون في السنوات الأخيرة يتوانون عن اتهامه بكل الموبقات... فوزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي محمد حصاد، الذي جيء به من أم الوزارات بعد صباغته بلون حزب سياسي لم تطأ قدماه يوما أحد مقراته، حيث اعتاد أسلوب استعراض العضلات ومنطق الأوامر والتعليمات، لم يفتأ يزرع السخط والاستياء وسط أسرة التعليم، عبر القرارات الارتجالية والمذكرات العشوائية وإجهازه على المكتسبات وفي مقدمتها الحركة الانتقالية... وكأن مهمته التي تدر عليه مدخولا شهريا كبيرا وامتيازات مغرية من أموال الشعب، حصرت فقط في إحصاء سكناتها وحركاتها والتشهير بها دون موجب حق ولا أدنى مراعاة لكرامتها، ناسيا فضلها عليه وعلى غيره في مراكز المسؤولية. ألا يعلم أن من بين أبرز ما ساعد الدول المتحضرة على شق طريقها نحو تحقيق الرفاهة لشعوبها، إدراكها المبكر بأن تقدمها رهين بمدى عنايتها وتقديرها للأستاذ، باعتباره المسؤول الأساسي عن التنشئة الاجتماعية للأجيال الصاعدة، والساهر على تأسيس وتكريس أهم القيم والأفكار التربوية والأخلاقية في الأذهان، من أجل بناء إنسان المستقبل الضامن لنهضتها وصانع حضارتها؟ فألمانيا الدولة العظمى، اعتمدت ضمن أولوياتها على قطاع التعليم، جاعلة منه قاطرة للتنمية البشرية والتطور الاجتماعي والإقلاع الاقتصادي، فاهتمت بالإعداد الجيد للمدرسين على مستوى عال من العلم والمعرفة وحسن الخلق، حتى يكونوا مؤهلين للاضطلاع بدورهم التربوي والتعليمي في اتجاه تنمية المجتمع وتطويره. وتأكيدا على ذلك، خصتهم برواتب أعلى من تلك التي يتقاضاها القضاة والأطباء والمهندسون. ونستحضر هنا كذلك التجربة الرائدة لدولة اليابان، التي لولا عنايتها الفائقة بالتعليم كركيزة أساسية في بناء الفرد وتكوين شخصيته وتنمية قدراته وصقل مواهبه، ما كانت لتتحول من دولة أنهكتها الحرب العالمية الثانية، إلى قوة اقتصادية كبرى تقدم المساعدات للدول النامية. إذ أولت المدرس أهمية خاصة، مانحة إياه حرية التصرف بصفته عضوا ضمن هيئة صانعي القرار في الشأن التعليمي. وإلى جانب تركيزها على جودة المناهج والبرامج الدراسية والعلاقات القوية بين المدرسين وتلامذتهم والمشاركة الإيجابية للأسر، حرصت على تمتيع المدرسين بأجور هامة، تغنيهم عن ممارسة أي عمل آخر، ولا تسمح لهم إطلاقا بإعطاء ساعات خصوصية. لقد كان أمل المغاربة كبيرا في أن يهتم الوزير بمعالجة القضايا الكبرى، ويسهر على أجرأة الرؤية الاستراتيجية 2015/2030 لإصلاح المنظومة التعليمية، لا أن يوجه مدفعيته صوب من علموه يوما النطق السليم بالحروف وتركيب الكلمات والجمل، الذين يحاربون الجهل في العقول. وكانت انتقادات بعضهم تهدف إلى تحفيزه على تكريس جهوده في الاتجاه الصحيح بعيدا عن الشكليات، ولم يكن لدى الشرفاء المتعطشين إلى الإصلاح نية إحباطه، إذ استحسن الكثيرون دعواته إلى تأهيل المؤسسات التعليمية وتجويد فضاءاتها بما يتواءم ورسالتها التربوية، توحيد الزي المدرسي بالنسبة للمتعلمين، اعتناء الأطر التربوية والإدارية بالهندام والتحلي بروح المسؤولية والأخلاق الحميدة ليكونوا قدوة حسنة للأجيال، وإحياء "سنة" تحية العلم والحد من الاكتظاظ والأقسام المشتركة ومحاربة النفخ في نقط المراقبة المستمرة ببعض مؤسسات التعليم الخاص... معتبرين هذه الإجراءات مؤشرات على رغبته في التغيير، ولا يمكن إلا التفاؤل بها ريثما تتلوها خطوات أخرى تكون أكثر جرأة وفاعلية. بيد أن ما خيب الآمال هو العودة المقصودة إلى شيطنة هيئة التدريس، ومحاولة إظهارها على غير صورتها الحقيقية. إذ في سابقة فريدة ومستفزة أقدم سيادته بدون موجب حق يوم 13 أكتوبر 2017، على إشهار لوائح بأسماء الأساتذة المتغيبين عن عملهم خلال شهر شتنبر الماضي. فعلى أي أساس قانوني اعتمدت وزارته؟ وإذا لم تكن هناك أي خلفية تستهدف الحط من قيمة المدرسين، فلم استثناء متغيبي الإدارة المركزية والأكاديميات والمديريات الإقليمية؟ ومتى كانت الشفافية تعني التشهير وإفشاء السر المهني؟ ألم يطلع مستشاروه الكبار على المذكرة الوزارية الصادرة في 8 صفر 1419 الموافق ل: 3 يونيو 1998 تحت رقم: 98-6 حول سر المهنة، التي تحث على عدم التشهير بالموظفين والالتزام بأحكام الفصل 18 من الظهير الشريف رقم: 1.58.008 بتاريخ 4 شعبان 1377 الموافق ل: 24 فبراير 1958، بشأن النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية؟ إن نساء ورجال التعليم يستنكرون بشدة حملة الابتزاز اللاأخلاقي ضدهم، التي لن تعمل سوى على ترسيخ فقدان الثقة في المدرسة العمومية، فالغياب المبرر أو غير المبرر عمل يخص الإدارة وحدها، وتغيب الموظف برخصة حق مشروع، كما أن للإدارة سلطة المطالبة بإجراء فحص طبي مضاد، اللهم إلا إذا كانت هناك رغبة خفية في الإجهاز على هذا المكسب، كالحرمان من المشاركة في الإضراب... أفلا يندرج خلط الرخص الطبية مع الغياب بدون مبرر، في إطار تضخيم الأرقام ومحاولة تضليل الرأي العام وإيهامه بأن مسؤولية انهيار المنظومة التعليمية، تعود إلى تقاعس هيئة التدريس في أداء واجبها؟ نحن مع الصرامة والقطع مع الاستهتار بالواجب وربط المسؤولية بالمحاسبة، لكننا نرفض بقوة التشهير المجاني خارج الضوابط القانونية، عوض الكشف عن مكامن الداء والبحث الجاد عن الدواء الناجع. فلا يمكن إصلاح التعليم وإعادة الاعتبار للمدرسة العمومية، بلا إرادة سياسية أو بدون إيلاء الأطر التربوية والإدارية العناية اللازمة ماديا ومعنويا...