... في منتصف التسعينات، خرجت جماعة العدل والإحسان في مظاهرات عبر مختلف المدن المغربية -اعتقد ان الحدث كان بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الانسان -في تطاون خرج أصدقاء الاستاد عيسى اشرقي-كان ساعتها أحد أبرز قيادي التنظيم- بعدد كبير نحو ساحة الفدان،وطبعا كان المخزن في انتظارهم بالهراوات،ولتغطية الحدث اعلاميا كنت أحمل آلة تصوير ولست أدري أي هوس أصابني ولكن شجاعة داخلية دفعتني لأتقدم وسط الجلبة (وتعرضت ساعتها لمضايقات ومحاولة ضرب) لاخد صور رائعة نشرت في اغلب الصحف الوطنية ، صور معبرة عن اللحظة وعن مرحلة من تاريخنا المغربي...ثم بعد ذلك كان لي لقاء اخر مع الجماعة عندما حضر سيدي عبد السلام ياسين الى تطوان وكان له ذاك الحشد بمركب الشودري ومرة أخرى تعرضت للمنع وهذه المرة من طرف اتباع الجماعة الذين لم يسمحوا لي باخد الصور من داخل القاعة...ثم كان لقاء آخر بمرتيل بعد القولة الشهيرة لفتح الله ارسلان:" اللي عندو باب واحد الله يشدو عليه..."ردا على قرار الدولة منع المخيمات الاسلامية فكان رد جماعة العدل والإحسان النزول الى الشواطئ ..وبمرتيل اخدت كذلك صورا للجماعة في البحر وتلك المرة لم أتعرض للمنع... اعرف الشيخ ياسين مند زمن طويل واعرف فكره جيدا ولأجل ذلك احتقرت كثيرا بعض الكتبة ومن بينهم ،لكحل...، مند ان بدأ يخط كتاباته التهجمية-( لا النقدية- والتي لم تستوف ساعتها أدنى شروط المعرفة)،ببعض الجرائد التي تحمل هم محاربة فكر ياسين إما تقربا الى المخزن وإما عشقا لفكر وفلسفة مناقضة ... في تجوالي بين مختلف التيارات الفكرية والمذاهب والجماعات بعالمنا الاسلامي... قرأت لعبد السلام ياسين مجمل كتاباته ومنشوراته ،وتتبعت خرجاته الاعلامية وأقوال رجالاته وأتباعه...كنت دائما أجد فرقا بين ما يكتبه وبين ما يقوله التابعون والمهووسون به...، كان يتحدث بعفوية ويكتب بلغة ليست بالسهلة ولكنها ليست معقدة ،وأغرب ما أثارني في مرحلة متقدمة من اطلاعي على فكره هو عدم خوضه في الفكر السياسي بشكل مباشر يعني أنني لم أكن أرى هم الرجل في الحكم أولا،وان كان يراه وسيلة للإصلاح، كانت كتاباته تصر على التقرب من الله وكانت المفردات الدالة على العظمة الالهية فارضة نفسها في الكتابة حتى لتخالك بين رجل صوفي وهو كان كذلك...كان يصر على بناء الفرد روحيا والى حسن المعاشرة للرجال الصالحين..وكنت ولا أزال أرى ان هذه من افضل الطرق للتربية في زماننا..من يؤمن " بالحل الاسلامي"،يعرف جيدا أن بناء الدولة يبدأ من بناء الفرد ، وعندما تتوقف آلة البناء النفسي تتوقف عجلة التقدم الحقيقي ويصبح همنا الحكم: متى نحكم ؟ما نصيبي من الحكم عندما يصل اخواني؟ اصبح بعضنا يقول بدون خوف:اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ أمين، وينسى أغلبنا: انها مسؤولية أمانة وخزي وندامة إلا من اتاها بحقها ، ونتناسى : نحن لا نلي هذا الامر احدا سأله...لأجل ذلك تنحى الدكتور توفيق رحمه الله وغيره من العلماء كثير لأنهم ببساطة رأوا أن الهم السياسي أصبح الطاغي،وعن حسن نية أصبح الفاعلون الاسلاميون يتنافسون للظفر بالمناصب والمراكز... وهذه بداية الهزيمة... احترمت سيدي عبد السلام ياسين لأنه في زمن الجلبة والقهر، رفض العنف ورفض الفتنة داخل البلاد الاسلامية ،وكانت لجماعته من الاسباب ما يدفعها لذلك ولكنه عرف وعلم فقهيا أن العنف محرم وأن سنة التدافع تفرض الصبر على المكاره وتحمل الصعاب وانتظار ساعة الفرج وأن أفضل الطرق لبناء مغرب الغد تتم ببناء الفرد اولا لذلك كنت أطمح دائما ان أربي أبنائي تربية الجماعة- مع احتفاظي بحق المخالفة في بعض الاراء ، وهذا ليس مقام تبيان الاراء ولكنها ساعة شهادة في حق رجل– احترمت الرجل لأنه استطاع ان يشكل تنظيما قويا جدا ،فرض على الدولة، في كثير من الأحيان، -وعلى رجالاتها المتشعبون بالفكر الغربي - مراجعة مواقفها مثلما ما حدث مع خطة ادماج المرأة في التنمية وغير ذلك واحترمت الرجل لان هيبته فرضت على المخزن ان يسمح "لإخواني" في التنظيمات الاسلامية الأخرى أن يلعبوا لعبة السياسة الرسمية بشكل ألطف ..وبالتالي تجنيب بلادي العنف احترمت الرجل لأنه لم يخجل ان يشهد للمقاومة كيفما كانت مذاهبها بالعرفان بالجميل، وأغلب تياراتنا الاسلامية تخاف ان تشهد للمقاومة الباسلة ضد الصهاينة بالحق مخافة نعتها بحب المذاهب الشيعية... واحترمت الرجل لأنه ساهم في بناء جيل كامل من المغاربة رجالا ونساء متشبعين بالفكر الاسلامي..وعليهم ،بعد مرحلة النضوج، أن يموقعوا أنفسهم حسب قناعاتهم، احترمت الرجل لأنه وفي لحظة الصراع مع المخزن لم ينزل لمستوى البذاءة الفكرية لينهش الاعراض ويخوض في المحرمات رغم الحملة التي تمت على أبنائه وعلى أتباعه...والتي وصل بعضها الى عرض كريمته-يا للدناءة- احببت الرجل لأنه كان بإمكانه أن يأخذ قسطه من الذهب والخيل الموسمة والحرث والأنعام فرفض..في الوقت الذي قبل فيه غيره من المتأسلمين الأمر واستحلوه بالفتاوي.. احببت الرجل لأنه: "...قد ترسخت في ذهني صورة مثالية لرجل لا تحتاج لمجالسته كثيرا لتتلمس في ملامح وجهه علامات الربانية والنورانية.".مقتطف من كلمة الشيخ أبو حفص في حق ياسين. وازددت حبا له عندما رأيت شهادة الشامت مفتي الجزر ومعاشرة الموتى الساكت على الحق والقابض لأتاوته ليخرص (كما خرص العلماء في فتنة الامام احمد وافتوا بجواز قتله) وقارنتها بشهادة غيره من الرجال الحق الذين جاهدوا بالكلمة حق الجهاد وصبروا على البلاء ولم يدوقوا حلاوة البرلمان وعطيته ولم يستحلوا جزية "لاكريمات" ... احببت الرجل لأنه وحتى في وصية موته لم يشأ ان يصفي حساباته ... وظل مرتبطا بالخطاب الدعوي الرباني موصيا بالنساء وبالصلاة والعمل الخيري وطامعا في عفو الله وشفاعة نبينا. سيدي عبد السلام ياسين احببته كثيرا وان لم أجالسه قط ،ويسرني أن تقول الأجيال القادمة أن المغرب عرف رجالا عظاما وان أحدهم كان يدعى سيدي عبد السلام ياسين. أستطيع ان استرسل في ذكر الرجل وما شكله بالنسبة لي ولجيلي ولكني فقط أحببت ان أقول كلمتي بكل صدق .....وبلا منفعة دنيوية أرجوها ... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ. رحمك الله يا سيدي وأسكنك فسيح جناته وإنا لله وإنا اليه راجعون. كتب: يوسف بلحسن