يكاد يجمع الباحثون على أن دخول المذهب الأشعري المبارك إلى الغرب الإسلامي كان في القرن الرابع الهجري ويذكرون أسماء يظنون أن أصحابها هم الذين كان لهم الفضل في ذلك، ومنهم دراس بن إسماعيل (ت 357) الذي احتك ببعض أقطاب المذهب وألف رسالة في الدفاع عنهم. ولكنهم يكادون يجمعون على أن المذهب دخل على يد أبي الحسن القابسي (403) وانتشر على يد الامام أبي بكر الباقلاني المتوفى في نفس السنة، ثم على يد تلاميذه من أمثال أبي عمر الطلمنكي (ت 429 ه) وأبي عمران الفاسي (ت 430) وأبي الوليد الباجي (ت 474) وغيرهم وما زال مستمرا إلى يومنا هذا، ويحتاج فقط إلى التعريف به وتقوية مادته في مناهج التعليم ونشره في حلة مبسطة بين العلوم في إطار ما نسميه بمحو الأمية العقدية، والذي انتبه إليه أسلافنا من علماء المذهب، فاعتبروا العلم بالعقيدة فرض عين في حق جميع المسلمين والمسلمات. وإلى ذلك أشار الناظم بقوله: أول واجب على من كلفا ممكنا من نظر أن يعرفا الله والرسل بالصفات مما عليه نصب الآيات أما مذهب الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، فأحب أن أتحدث عن منهجه بدل الحديث عن أحكامه. وهذا المنهج له خلفية خلقية إيمانية علمية تتجلى في التقوى والإخلاص والإتقان والصدق والإنصاف والتواضع والتحري والتثبت والاحتياط وتبرئة الذمة فقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يقول لأصحابه: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا راييي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه». وقال أشهب: سئل مالك عن مسألة فأجاب فيها ثم قال: «لا أدري إن نظن إلا ظنا، إنما هو الرأي، وأنا أخطئ وأرجع، وكل ما أقول يكتب» . أما الزاوية الثانية من منهج المذهب المالكي فهي زاوية الأصول وتمتاز بالكثرة والتنوع والدقة والعلمية، كما تمتاز بقدرتها على جعل المذهب قادرا على مسايرة التطور والتلاؤم مع تغيرات الزمان والمكان مؤهلا لفتح آفاق جديدة، أما الإنسان وإيجاد الأحكام الجديدة للحوادث والنوازل والوقائع دون حرج ولا ضيق. وليس من قبيل الصدفة أن يعيش المذهب المالكي قويا فاعلا في محيطه منذ ما يزيد على اثني عشر قرنا، وأن يتسع فقهه ليصبح بحرا من كتب الأحكام والنوازل التي تواكب الحياة والحضارة والإنسان. وعدد هذه الأدوات الأصول في المذهب ستة عشر على المشهور. وهو ما ذهب إليه أحمد بن محمد بن أبي كف في منظومته التي شرحها الشيخ محمد بن يحيى الشنقيطي في شرحه المسمى «إيصال السالك في أصول الإمام مالك». وأصول المذهب هي أسسه وقواعده ونحن بطبيعة الحال، إذا كنا نتبع الإمام مالك فنحن لا نتبع أقواله مجردة عن أصولها بل نتبع منهج الإمام مالك وأصوله المؤدي إلى القول الموافق لمراد الشرع. إن تنوع هذه الأدوات في المذهب يعطي الفقيه فرصة للاستنباط والتخريج ويفتح المجال المتسع للمجتهد للاجتهاد داخل المذهب وهذه الأدوات وسائل لإغناء المذهب وإغناء الفقه في التشريع وتحقيق التحديث والتجديد اللذين يفرضهما التطور الذي تشهده الحياة. ونكتفي في هذا العرض بثلاث أدوات أو أصول من أدوات المذهب وأصوله ليتبين ما نستطيع أن نحققه من إبداع واجتهاد إيجابي بناء بواسطتها. الأداة الأولى: الاستحسان والاستحسان هو ما حسن في الشرع ولم ينافه والمستحسن يستحسنه بعقله ويميل إليه أو الانتقال من حكم إلى حكم آخر أولى منه. ودليله قول النبي (ص): «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن». فانظر كيف اعترف هذا الأصل للعقل بحظه في الشرع عن طريق الاستحسان وقد قال الإمام مالك بالاستحسان في مسائل كثيرة. وثبت عنه الاستحسان تسعة أعشار العلم. والاستحسان له صور كثيرة، من بينها استعمال مصلحة جزئية مثل إلزام التجار بإخراج جميع البضائع التي لديهم إلى السوق وعدم بيعها في المنازل أو في المخازن الخاصة لأن في الاقتصار على المنازل أو المخازن إعزازا لتلك السلعة وفرصة لأولئك التجار ليبيعوها بما يشاؤون، وإن كان الأصل يبيح ذلك، ولكن ننتقل من الأصل إلى الاستحسان للمصلحة التي ظهرت. كذلك من صور الاستحسان التخصيص بالعرف. فالهالك مثلا إذا أوصى لقرابته فالقياس الأخذ بعموم اللفظ فيدخل الورثة في القرابة، والاستحسان أن لا يدخل الورثة حتى يتوسع القرابة بالوصية وحدهم، لاسيما أن الورثة لهم أنصبتهم، وكذلك من صور الاستحسان رفع الحرج والأخذ بالتوسعة، من ذلك إجازة الغبن اليسير في المعاملات. فالغبن محظور ولكن لتيسير المعاملات، وحتى لا تتوقف الحركة استحسن تجويز الغبن اليسير في المعاملات. الأداة الثانية: المصالح المرسلة ومعلوم أن المصالح لا تنحصر ولا يحدها حد ولا يحيط بها عد، ولا يمكن ضبطها بجميع مفرداتها لأنها تتجدد وتتنوع بتجدد الأيام وتنوع الأحوال، ومع ذلك فإن الشريعة تهيمن على هذه المصالح إما بالتنصيص عليها وإما عن طريق استيعابها في المبادئ العامة للشريعة. فالمصالح التي ليس لها نص في كتاب الله ، ولا في سنة رسول الله (ص) نرجع في شأنها إلى المبادئ العامة للشريعة. وهذا باب واسع من أبواب التحديث والتطوير والتجديد في المذهب المالكي، وآلية كبيرة فعالة يمكن استثمارها في التوسع في التشريع وإعطاء طابع الشرعية لكثير من المصالح التي تسد حاجة الناس وترفع عنهم الحرج. حقا لقد نحا الفقهاء بهذه الأداة وبغيرها منحى التشديد مع أنها مرصودة للتوسيع على الناس والتخفيف ورفع الحرج. ومن الأمثلة التي استخدموا فيها هذه الأداة مثلا: تغليظ الحد على شارب الخمر في نهار رمضان مراعاة لمصلحة المحافظة على الجو الديني العام في ذلك الشهر. ومنها نفي أهل الفساد إلى بلد يؤمن فيه شرهم، مراعاة لمصلحة تأمين المجتمع وتطهيره... ولذلك فنحن اليوم مطالبون بحسن استعمال أدوات التجديد في مذهبنا المالكي وفي سائر المذاهب الفقهية من أجل تحقيق مصالح الناس، وإعطاء شرعية الجواز لكل مصلحة محققة غير وهمية لا تخالف المبادئ العامة للشريعة، ويشهد لها شاهد عام من شواهد الشريعة إن لم يوجد الشاهد الخاص. الأداة الثالثة: العرف والعادات فالعرف والعادة أصل من أصول المذهب وأداة من أدواته في إنتاج التشريع ومعلوم أن الأعراف محكمة. والأعراف هي ما تعارف عليه الناس وما تواطؤوا عليه من الأمور الحسنة. وقد قال بها الإمام مالك وسائر علماء المالكية. وأوجبوا على القاضي أن لا يحكم وعلى المفتي أن لا يفتي إلا إذا كان متمكنا من أعراف الناس وعوائدهم. وقالوا إن الأحكام تدور بدوران العادة والعرف، والأحكام تتجدد بتجديد العادات والأعراف ونظموا ذلك بقولهم: وما اقتضته عادة تجددت تعين الحكم به إذا بدت وأصلوا ذلك بقواعد مشهورة كقولهم: المعروف عرفا كالمشروط شرطا. وقولهم: العادة محكمة. وقولهم: التعيين بالعرف كالتعيين بدليل شرعي. وقولهم: الثابت بالعرف كالثابت بالنص. ولا نستطيع في هذه العجالة أن نتحدث عن جميع الأصول والأدوات النافعة والناجعة في المذهب، وكان لها دور فعال في إغناء الفقه والتوسع فيه وأفسحت المجال لاجتهادات بديعة في جميع المجالات. وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق. طريقة الجنيد السالك فالجنيد هو محمد الجنيد بن محمد بن الجنيد ابو القاسم الخزاز، ويقال القواريري. وقيل كان أبوه قواريريا، وكان هو خزازا. وأصله من نهاوند إلا أن مولده ومنشأه ببغداد. وسمع بها الحديث، ولقي العلماء ودرس الفقه على أبي ثور، وكان يفتي في مجلسه منذ كان سنه لا يتجاوز العشرين، وصحب جماعة من الصالحين واشتهر منهم بصحبة الحارث المحاسبي، والسري السقطي. الذي هو خاله. ثم اشتغل بالعبادة، ولزمها حتى علت سنه، وصار شيخ وقته وفريد عصره في علم الأحوال والكلام على لسان السادة الصوفية وطريقة الوعظ. سمع الحديث الكثير عن الشيوخ ورزق من الذكاء وصواب الجوابات في فنون العلم ما لم ير في زمانه مثله عند أحد من أقرانه في عفاف وعزوف عن الدنيا وزهد كامل. وتوفي رحمه الله سنة 297ه. ومما روي عنه قوله: علمنا مضبوط بالكتاب والسنة من لم يحفظ الكتاب ، ويكتب الحديث ، ولم يتفقه لا يقتدى به .وكان رحمه الله يعرف التصوف بقوله: «التصوف هو صفاء المعاملة مع الله تعالى وأصله الرصف عن الدنيا». وروي عنه أن التصوف مبني على ثمانية مبادئ أخلاقية: الأول السخاء: عن الخليل ابراهيم (ع) الثاني الرضا: عن اسحق (ع) الثالث الصبر: عن ايوب (ع) الرابع الإشارة : عن زكريا (ع) الخامس الغربة: عن يحيا (ع) السادس لبس الصوف: عن موسى (ع) السابع السباحة: عن عيسى (ع) الثامن الفقر: عن سيدنا محمد (ع) وعن مكانته العلمية يقول أبو القاسم الكعبي: رأيت لكم شيخا ببغداد يقال له الجنيد بن محمد ، ما رأت عيناي مثله ، كان الكتبة يحضرونه لألفاظه ، والفلاسفة يحضرونه لدقة معانيه ، والمتكلمون يحضرونه لزمام علمه ، وكلامه بائن عن فهمهم وكلامهم وعلمهم . ومما روي عنه قوله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل لكن عن الجوع وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات، لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله، وأصله التعزف عن الدنيا. وللجنيد رحمه الله ترجمة مطولة في تاريخ بغداد 7/ 241 وتراجم كثيرة في غيره من كتب التراجم والأعلام. ومعلوم أن التصوف الإسلامي مر بعدة مراحل. أولها مرحلة الزهد وتمتد من أول القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث الهجري. ومن أعلام هذه المرحلة الحسن البصري والحارث المحاسبي والسري السقطي ويلتحق بهم ذو النون المصري ورابعة العدوية (185) التي اشتهرت بأناشيد الحب الإلهي مثل قولها: أحبك حُبين حب الهوى وحباً لأنك أهل لذاكا فاما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواكا واما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجب حتى اراكا فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا وأما المرحلة الثانية فهي مرحلة النضج والتربية وتمتد من منتصف القرن الثالث الهجري إلى نهاية القرن الرابع وهي فترة الازدهار، والاكتمال لحقيقة التصوف، والاستقرار والرسوخ لمنهجه وأسلوبه المتميز في الفكر الإسلامي وفي الحياة العامة . وتمتاز هذه المرحلة بغلبة التأمل والتحليل النفسي وبدء ظهور النظريات والأفكار التربوية الروحية كالمحبة والولاية والفناء والنور المحمدي والمقامات وما يرتبط بها من أحوال. وإلى بداية هذه المرحلة ينتسب إمامنا الجنيد رحمه الله ورضي عنه وقد توفي سنة 297. وإلى نهايتها ينتسب حجة الإسلام الغزالي (ت 505) رحمه الله. وقد استطاع الجنيد أن يحقق للتصوف مشروعية وجوده وبيان حقيقته، ونفي الغلو فيه، وإزالة التعارض الموهوم بين الشريعة والحقيقة. ويبدو ذلك في موقفه من الحلاج، وقد كان الحلاج أحد تلامذة الجنيد، لكنه أعلن عدم رضاه عن آرائه القائلة أو الموهمة بالاتحاد والحلول، ورأى فيها فتنة للمسلمين، فأبعده عن حلقته. ولا بأس وقد جرى ذكر الحلاج أن نذكر شيئا من أشعاره التي تحتمل وجوها في التأويل . منها قوله: و الله ما طلعت شمس و لا غربت إلا و حبك مقرون بأنفاسي و لا خلوت إلى قوم أحدثهم إلا و أنت حديثي بين جلاسي و لا ذكرتك محزونا ولا فرحا إلا و أنت بقلبي بين وسواسي و لا هممت بشرب الماء من عطش إلا رأيت خيالا منك في كاسي وقوله: أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا وأما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الازدهار الفكري والعملي، وتبدأ هذه المرحلة بالشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني وتنتهي بالشيخ النقشبندي (ت 791ه). ثم تأتي المراحل الأخيرة والتي لا يسمح الوقت بالتلميح إلى أعلامها ومميزاتها. وكل هذه المراحل أعطت رجالا أفذاذا خدموا الجانب الروحي ومقام الإحسان وسلكوا بالناس مسالك التخلي والتحلي والتجلي ومقامات المجاهدة المؤدية إلى المشاهدة ووجهوهم إلى معرفة الله وحبه وحب نبيه وأخذوا بأيديهم في مدارج الكمال. وكما قال ابن القيم رحمه الله: في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه, وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه ، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته و الإنابة إليه ودوام ذكره و صدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا وهذا هو ما حققه التصوف لهذه الأمة، وهذا هو معنى انتسابنا نحن المغاربة لطريقة الجنيد التي ترجع اليها أهم الطرق الصوفية المعروفة ببلادنا. ويكفي أن نذكر على سبيل المثال ان أبا الحسن الشاذلي الذي هو تلميذ مولاي عبد السلام بن مشيش يتصل سنده في الطريقة إلى أبى القاسم الجنيد من طريق شيخه مولاي عبد السلام بن مشيش ومن طريق الشيخ محمد بن حرازم). وهذا يكفي في هذا الباب. بقي أن نقول إن واقع التصوف في هذا العصر يشهد ازدهارا كبيرا، ولكنه في نفس الوقت يعاني من الانحراف والتحريف وتشويه الشعوذة وترتكب المناكير تحت سقفه في المواسم، وتستغل أضرحة الأولياء الصالحين في بعض المناسبات التي لا علاقة لها بالدين. ويوظف السماع الصوفي والموسيقى الروحية في أغراض لا علاقة لها بالتصوف. ولقد التقيت بعدد كبير من رجال التصوف في القارة الإفريقية، فوجدت الكثير منهم يعكفون على الأذكار والأوراد لتحقيق أغراض دنيوية بئيسة كالتقرب من ذوي النفوذ والانتقام من الأعداء وما يسمى بالجلب والدفع والتحصين وترويج التجارة، واستعمال الاسم والحرف في ذلك، وهو تحريف للتصوف الذي هو مدرسة تربوية تغرس الإيمان في القلوب وتروض النفوس على العبادة والتقرب إلى الله ومعرفته ومحبته، والتقلل من الدنيا والحذر من فتنتها. ونحن نرى أن التصوف امتداد للمنهج المحمدي وتجسيد لمقام الإحسان وندعو إلى تنقيته من الشوائب والرجوع به إلى منبعه الأصيل وهو كتاب الله وسنة رسوله (ص).
عبد الكبير العلوي المدغري - وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق في محاضرة تحت عنوان «معالم الشخصية الدينية المغربية» ألقاها بالرباط يوم 11 نونبر المنصرم.