في ذكرى يناير1984 كانت الساعة تجاوزت الخامسة صباحا بقليل، من سبت أحد أيام يناير الباردة من سنة 1985. أيقظتني أمي، رغم أنها سبقتني بساعتين أو أكثر، كنت أتحسس نشاطها في المطبخ من خلال رائحة الطعام التي كانت تداعب أنفي، و كنت أستنشقها . لم أكن أحب هذه الرائحة , بالعكس كانت تحبس شهيتي وتجعلني لا أتناول وجبة الفطور. توقظني مرة و اثنتين وثلاثة أو أكثر، و تذهب. بعدها أعود لأنام ، لكنني في المرة الأخيرة، وحتى لا أستفزها، أقاوم النعاس و أستيقظ. .ألقيت ،من النافذة،بنظرة سريعة إلى الخارج.مازال الظلام يخيم على مدينة تطوان. والسكون مخيفإلى درجة لا تتصور. لم تتكلم أمي كثيرا. ربما لئلا يستيقظ أحد.تمتمت قليلا ببضعكلمات، ولأني نصف نائم، فهمت منها شيئا واحدا: "الله يعفو علينا من هاذ القفة". أخذتها وبضع كتب ومجلات و خرجت في إتجاه المحطة.ولأن الناس مازالوا نياما، لم أكن أسمع غير صوت حذائي و كأني جندي ألماني تورط في حرب لا يعرف بدايتها ولا نهايتها، ليجد نفسه في شوارع باريز الحزينة يمشي ضمن كتيبة في دورية ليلية.لايسمع سوى صوت حذائه العسكري المزعج . مررت بحارس الدكاكين بحينا،هذا الرجل المسن الذي يحرس الدكاكين بحي العيون، مقابل دراهم يجمعها في آخر الشهر. إنه كالخفاش، يقيم الليل و ينام النهار، لم يسبق لي أن رأيته في النهار مع أنه يعرفني جيدا و يعرف وجهتي، بدليل أنني عندما أحييه يقول لي: " الله يطلق السراح" ،وحتى أسلي نفسي، وأنا ذاهب في هذه "المهمة"، كنت أحب أن أغني أغنية الشيخ إمام ( أنا رحت القلعة و شفت ياسين حوليه العسكر و الزنازين .......)، كنت أرددها دائما حتى أجد نفسي داخل محطة تطوانالقديمة، أمام حافلة السادسة صباحا المتوجهة إلى مدينة طنجة . حتى مساعد السائق كان يعرفني و يعرف موعدي و يعيد على مسامعي ما يقوله لي حارس الدكاكين: " الله يطلق السراح". كنت دائما أبتسم في وجهه و أحبطيبوبته وأحس بتضامنه. وكنت ألمس هذا عند الأداء، كان دائما يخصم من ثمن التذكرة و يضع يده على كتفي. أخذت الحافلة طريقها نحو مدينة طنجة. وبما أن الوقت مازال مظلما، كنت أفضل أن أسترق بعض الدقائق للنوم، لم يكن اليوم عاديا منذ بدايته؛ فقد تشاجر السائق مع أحد الركاب، كان ثرثارا لدرجة أنه حرمني من تلك الغفوة التي أستلذها، بخلاف أيام الصيف، إذ يكون شروق الشمس مبكرا، يسحرك منظر الصباح، و دائما أحب أن أتمتع به و أنا أشاهد من نافذة الحافلة حقول القمح الصفراء تنتظر قطافها و هي تتمايل مع نسيم الصباح. ما أن أصل إلى مدينة طنجة حتى يكون علي ركوب"طاكسي" صغير إلى "السوق د-بارة" رغم أن الشمس لم تشرق بعد ولن تشرق في هذا اليوم الممطر, فكلما ركبت"الطاكسي"، وهو في طريقه لأستقل حافلة أخرى إلى "قلعة إسمنتية" كبيرة بأسوارها العالية تُسمى القرى السبعة أو " 7 فلاج"، أتذكر كيف وصف محمد شكري مدينة طنجة في سيرته الذاتية (الخبز الحافي).كم كان هذا الكاتب عفويا و سهلا في كتاباته و دقيقا في وصفه. علي أن أكون أمام الباب الحديدي الكبير المخيف في حدود الساعة الثامنة أو قبلها بقليل. لم يكن يوماعاديا،بامتياز؛ وأنا أبحث بين الكتب والمجلات، اكتشفت أنني قد نسيت كتاب( كان و أخواتها)؛ السيرة الذاتية لعبد القادر الشاوي. كان أخي عبد اللطيف الثاني قد إشترى نسختين،احتفظ بواحدة لنفسه، و طلب مني إيصال الأخرى لأخي عبداللطيف 1 . " لعنت الشيطان" ثم ابتسمت وأنا أقول في نفسي: ماذا صنع لي هذا المدعو "الشيطان" و أنا لم أره في حياتي قط. ربما التقيت بشياطين آخرين ولكني لم ألعنهم ،رغم أنهم كثيرون ويستحقون اللعنة. كما كان متوقعا، وصلت في الوقت المحدد ،رغمالأمطار التي كانت تتهاطل بغزارة. كان الوضع غير عادي, البوليس السري "خيط من السماء" أكثر من الأمطار المتهاطلة. بعض رجال الأمن باللباس الرسمي وعدد من حراس السجن. حاولت أن أستفسر؟, إذا بي أُستفسر (بضم الهمزة). أخذوا مني بطاقتي الوطنية ووضعوني داخل سيارة أنا و"قفتي"،بعدما أن أخذوا مني الكتب والمجلات وفتشوا"القفة" ،بطبيعة الحال.أمطروني بوابل من الأسئلة. ألم أقل لكم إنه يوم غير عادي من أوله ؟؟. تركزت كل الأسئلة عن علاقتي بمن جئت لزيارته. إنه الغباء بعينيه .... و مَن تُراه يكون؟ إنه إبن أبي و أمي، و قد رضع من نفس النهد الذي رضعت منه و شرب نفس الحليب الذي شربت.فهل تريدون دليلا أكبر عن علاقتي بالسجين رقم ......وكلما أردت طرح سؤال، أسمع صوتا يذكرني بنهيق الحمير يقول لي: "نحن من نسأل ،أنت عليك أن تجيب". ويقول لي بين الفينة و الأخرى: "هم الخاسرون في الأخير، سيموتون جوعا". أحاول طرح السؤال: من هؤلاء الذين سيموتون جوعا؟، أتلقى نفس الجواب: "نحن من نسأل ،أنت عليك أن تجيب". والشهادة لله، هذه المرة لم تكن غير الأسئلة و ليس شيئاآخر. تم إخراجي من السيارة و سُمح لي بدفع "القفة"في المكان المخصص لذلك. قبل الدخول إلى (المزار) ،وهو المكان الذي يلتقي به المعتقلون بذويهم، كان الكل يتهامس. وللمرأة الأولى شاهدت مدير قلعة "7فلاج" مرتبكا، أو ربما للمرة الأولى التي يأتي إلى عمله في هذه الساعة المبكرة و اليوم يوم السبت ،عطلة. قال لي: "لن نسمح لكم بالزيارة هذا اليوم". لم أرد على كلامه، كنت مرهقا من السفر و من الكم الهائل من الأسئلة التي أجبت عنها ومنجوّ "الشرقي". أحسست من نبرة كلامه المرتبكة ومن حالته العصبية، أن شيئا خطيرا سيقع، أو قد وقع، وأن الوضع غير عادي تماما.لم أكتشف ماذا يجري بالداخل إلا بعد ما أن أعادوا إلي "القفة". كانت الساعة حوالي الرابعة عصرا. أعادوها كما هي بأكلها ؟, قمت بفحص محتوياتها فوجدتها كاملة لا ينقصها شيء سوى السكر،عندها علمت ماذا يجري بالداخل، إنهم دخلوا في أول إضراب عن الطعام ..... ومن هنا بدأت الحكاية، حكاية الكرامة لتحقيق الاعتراف بالمجموعة كمعتقلين سياسيين. ألم أقل لكم: كان يوما غير عادي، و بامتياز.