كانت الساعة تجاوزت الخامسة صباحا بقليل من سبت أحد أيام يناير الباردة من سنة 1985، أيقظتني أمي، رغم أنها سبقتني بساعتين أو أكثر، كنت أتحسس نشاطها في المطبخ من خلال رائحة الطعام التي كانت تداعب أنفي و كنت أستنشقها . لم أكن أحب هذه الرائحة , بالعكس كانت تحبس شهيتي وتجعلني لا أتناول وجبة الفطور. تيقظني مرة و إثنين وثلاثة أو أكثر و تذهب , بعدها أعود لأنام ، لكنني في المرة الأخيرة، وحتى لا أستفزها أقاوم النعاس و أستيقظ . ألقيت بنظرة سريعة إلى الخارج من النافذة كان الظلام مازال يخيم على مدينة تطوان و كذلك السكون، هذا الأخير كان مخيفا لدرجة لا تتصور . لم تتكلم أمي كثيرا ربما حتى لا يستيقظ أحدا تمتمت قليلا ببعض الكلمات و لأنني نصف نائم , فهمت منها شيئا واحدا "الله يعفو علينا من هذه القفة" ، أخذتها و بعض الكتب و المجلات و خرجت في إتجاه المحطة و لأن الناس مازالوا نياما , كنت لا أسمع سوى صوت حذائي و كأنني جندي ألماني تورط في حرب لا يعرب بدايتها و لا نهايتها ليجد نفسه يمشي في شوارع باريز الحزينة ضمن كتيبة في دورية ليلية ، لايسمع سوى صوت حذائه العسكري المزعج . مررت بالحارس هذا الرجل المسن الذي يحرس الدكاكين في حي العيون مقابل دراهم يجمعها في أخر الشهر من أصحاب هذه الدكاكين إنه كالخفاش، يقيم الليل و ينام النهار ، لم يسبق لي أن رأيته بالنهار مع أنه يعرفني جيدا و يعرف وجهتي بدليل أنني عندما أحييه يقول لي " الله يطلق السراح" ، كنت أحب أن أغني دائما و أنا ذاهب في هذه " المهمة" و حتى أسلي نفسي أغنية الشيخ إمام ( أنا رحت القلعة و شفت ياسين حوليه العسكر و زنازين .......) كنت أرددها دائما حتى أجد نفسي داخل محطة تطوانالقديمة ، أمام حافلة السادسة صباحا المتوجهة إلى مدينة طنجة . حتى مساعد السائق كان يعرفني و يعرف موعدي و يعيد على مسامعي ما يقوله لي حارس الدكاكين " الله يطلق السراح" كنت دائما أبتسم في وجهه و أحب طيبوبته و أحس بتضامنه و كنت ألمس هذا عند الأداء ، كان دائما يخسم لي من ثمن التذكرة و يضع يده على كتفي . أخذت الحافلة طريقها نحو مدينة طنجة و بما أن الوقت مازال مظلما كنت أفضل أن أسترق بعض الدقائق للنوم ، ولم يكن اليوم عادي من بدايته ، فقد تشاجر السائق مع أحد الركاب كان ثرثارا لدرجة أنه حرمني من تلك الغفوة التي أحبها . بخلاف أيام الصيف يكون شروق الشمس مبكرا ، يسحرك منظر الصباح ، و دائما أحب أن أتمتع به و أنا أشاهد من نافذة الحافلة حقول القمح الصفراء تنتظر قطافها و هي تتمايل مع نسيم الصباح . ما أن أصل إلى مدينة طنجة حتى يكون علي ركوب" طاكسي" صغير إلى "السوق د-بارة" رغم أن الشمس لم تشرق بعد ولن تشرق في هدا اليوم الممطر, فكلما ركبت" الطاكسي" وهو في طريقه لأستقل حافلة أخرى إلى "قلعة إسمنتية" كبيرة بأسوارها العالية تُسمى القرى السبعة أو " 7 فلاج" أتذكر كيف وصف محمد شكري مدينة طنجة في سيرته الذاتية (الخبز الحافي) و كم كان هذا الكاتب عفويا و سهلا في كتاباته و دقيقا في وصفه . علي أن أكون أمام بابها الحديدي الكبير المخيف في حدود الساعة ثامنة أو قبلها بقليل . لم يكن يوم عادي بإمتياز، و أنا أبحث بين الكتب و المجلات إكتشفت أنني قد نسيت كتاب( كان و أخواتها) السيرة الذاتية لعبد القادر الشاوي ، كان أخي عبد اللطيف الثاني قد إشترى نسختين إحتفظ بواحدة لنفسه و طلب مني إيصال الأخرى لأخي عبداللطيف 1 . " لعنة الشيطان" ثم إبتسمت مع نفسي و أنا أقول ماذا صنع لي هذا المدعو "الشيطان" و أنا لم أراه في حياتي , ربما إلتقيت بشياطين أخرين ولكني لم ألعنهم رغم أنهم كثيرون ويستحقون اللعنة . كما كان متوقعا و صلت في الوقت المحدد رغم الأمطار التي كانت تتهاطل بغزارة ، كان الوضع غير عادي , البوليس السري "خيط من السماء" أكثر من الأمطار المتهاطلة , بعض رجال الأمن باللباس الرسمي و عدد من حراس السجن , حاولت أن أستفسر؟, إذا بي أنا أُستفسر (بضم الهمزة) . أخدوا مني بطاقتي الوطنية و وضعوني داخل سيارة , أنا و "قفتي" بعدما أن أخدوا مني الكتب و المجلات وفتشوا" القفة" بطبيعة الحال ‘ أمطروني بوابل من الأسئلة , ألم أقل لكم إنه يوم غير عادي من أوله ؟؟ , كانت كل الأسئلة تُركز عن علاقتي بالذي جئت لزيارته ، إنه الغباء بعينيه .... و من تُراه يكون إنه إبن أبي و أمي , و قد رضع من نفس النهد الذي رضعت منه و شرب نفس الحليب الذي شربت منه ‘ و ماذا تريدون أكثر من ذليل عن علاقتي بالسجين رقم ......و كلما أردت طرح سؤال , أسمع صوت يذكرني بنهيق الحمير , يقول لي" نحن من يسأل أنت عليك أن تجيب ", ويقول لي بين الفينة و الأخرى , "هم الخاسرون في الأخير سيموتون جوعا" , أحاول طرح السؤال..... , من هؤلاء الذين سيموتون جوعا ؟, أتلقى نفس الجواب "نحن من يسأل أنت عليك أن تجيب" , و الشهادت لله هذه المرة لم تكن غير الأسئلة و ليس شيء أخر. تم إخراجي من السيارة و سُمح لي بدفع " القفة"في المكان المخصص لذلك , قبل الدخول إلى (المزار) و هو المكان الذي يلتقي به المعتقلين بذويهم , كان الكل يتهامس و للمرأة الأولى أشاهد مدير القلعة "7فلاج" مرتبك أو ربما للمرة الأولى يأتي إلى عمله في هذه الساعة المبكرة و اليوم يوم السبت عطله . قال لي "لن نسمح لكم "بالزيارة هذا اليوم ،لم أرد عليه , لأنني كنت مرهقا من السفر و من الكم الهائل من الاسئلة التي أجبت عنها و من "الشرقي" , أحسست من نبرت كلامه المرتبكة و شكله العصبي , أن شيئا خطيرا سيقع أو قد وقع ،وأن الوضع غير عادي تماما. لم أكتشف ماذا يجري بالداخل إلا بعد ما أن أعادوا لي " القفة", كانت الساعة حوالي الرابعة عصرا. أعادوها كما هي بأكلها ؟, قمت بفحص محتوياتها فوجدتها كاملة لا ينقصها شيئ سوى السكر،عندها علمت ماذا يجري بالداخل ، إنهم دخلوا في أول إضراب عن الطعام ..... و من هنا بدأت الحكاية، حكاية الكرامة لتحقيق الإعتراف بالمجموعة كمعتقلين سياسيين . ألم أقل لكم إنه كان يوم غير عادي و بإمتياز.