في حارتنا رجل اسمه "الهروي"،لا أحد يعرف معنى هذا اللقب الذي ألصق به،الجميع يناديه "الهروي"،غير أن هذا "الجميع" عدده قليل جداً.لم يكن "الهروي" يحب معاشرة الناس،ولا يحب الكلام،تراه دائما صامتاً منطويا على ذاته.بنيته قوية جدا،ملامح وجهه قاسية،له عين شبه مغلقة وعين شبه مفتوحة،من أول نظرة تراه وكأنه يغمز لك،مع أن تلك هي طريقته في النظر،يبدو وكأن بصره ضعيف،أو هو ضعيف فعلا.لم يولد "الهروي" في حارتنا،أتى إليها قبل بضع سنوات،وسكن في إحدى الغرف التي يكتريها من "عمي اعمر" صاحب الفندق التقليدي الموجود على الطريق المؤدية لباب المقابر،هذا الفندق لا يلجأ إليه إلا من تقطعت بهم السبل،وأصبحوا كأنهم مقطوعون من شجرة.مع تزايد الطلب على "عمي اعمر"، قام بشراء منزل متوسط الاتساع بطابقين يقع خلف الفندق، وعمل على تغيير ملامح هندسته ليفي بالغرض،فأصبح منزلا تصطف في طابقه العلوي كما في الطابق السفلي الغرف الضيقة الصغيرة، مع مرحاض واحد في خدمة جميع النزلاء يوجد على يمين مدخل المنزل.وفي الفندق نفس الشيء إلا أنه مصمم أصلا ليكون كثير الغرف وذا طابقين،وليكون أوسع من مجرد منزل،استغل "عمي اعمر" باحته الواسعة ومدخله لتخزين الحصر وبيعها،عند المدخل تجد يمنة ويسرة صفين من الحصر الملفوفة الواقفة.وهي حصر مصنوعة من "الديس" وهو عبارة عن نبات قاس مسنون وحاد طرفه العلوي،ينمو في المستنقعات، يقتلع ويغسل جيدا ثم يجفف تحت الشمس،ويلون بألوان مختلفة خاصة بالأخضر والأحمر،وما يبقى منه على طبيعته يتحول بعد أن يجفف من لونه الأخضر إلى لون أبيض يميل للصفرة.يسكن "الهروي" في هذا الفندق التقليدي ذي السقف العتيق المصفوف بالقطع الخشبية القديمة المستديرة. يجر "الهروي" عربته بصمت،يبيع الفواكه الموسمية،لا ينادي أبدا على المارة لجلبهم نحو بضاعته،غالبا ما يقف في زاوية من زوايا "السوق الفوقي" الذي يتسع للجميع، يتسع لبائعي الخبز والخضر والحلويات،ولعارضي الثياب المستعملة،وحتى للمحتالين والنشالين.سوق يضج بالحركة.يمر أبناء الحي أمام عربة "الهروي" ويختلسون بعضا من فاكهته المعروضة،بكل بساطة يتركهم يمرون.يقول أبناء الحي إنه لا يراهم بسبب بصره الضعيف.آخرون يعتقدون عكس ذلك،يقولون إنه يرى ويدرك ما يفعلون،لكنه رجل مسالم رغم بنيته القوية جدا،قنوع رغم فقره وحاجته.يبدو ذلك جليا،عندما يجلس في مقهى الحي الملاصق للفندق الذي يقطن فيه،لا يلتفت أبدا للشباب المشاغبين العدوانيين من أبناء الحي،لا يعيرهم أي اهتمام،وكأنهم غير موجودين،كما أنه لا يلتفت أبدا للتلفاز المعلق على جدار المقهى، رغم أن "التلفاز" يظل يهذي طول النهار وجزءا غير يسير من الليل.لا يحب "الهروي الشباب الأرعن ولا التلفاز الأهوج،بينما تراه يبتسم أحيانا لشباب الحي المسالمين الذين يشتغلون أو يتابعون دراستهم،يبتسم لهم ،وقد يتجاذب معهم حديثا مقتضبا حينا آخر.رغم أنه لا يبتسم إلا لماما،ولا يتكلم إلا قليلا.في جميع الأحوال يعرف "الهروي" ما يدور حوله،ويميز جيدا معدن البشر وقيمته. لا أحد يعرف سر انطوائية "الهروي" على نفسه،وتحاشيه الاحتكاك بالبشر،و ما هي الأسرار التي يخفيها وجهه المتجهم الحزين ؟ يقول بعضهم إنه أتى من مكان بعيد بعدما خانته زوجته،ويضيف آخرون أنه قتلها وهرب،ويبالغ آخرون قائلين إنه قتلها هي وعشيقها،وهرب إلى هنا،بعدما أخفى اسمه الحقيقي،وأخفى الوجهة التي أتى منها، وانزوى منطويا على نفسه يعيش كوابيس ذكرياته الأليمة.لكن كل ما يقال مجرد إشاعات مسترسلة تولدت عن صمته وانطوائه وغموضه المثير. لم يكن يتصور أحد رغم شخصية "الهروي" القوية أنهم سيجدونه مغمى عليه داخل غرفته في فندق "عمي اعمر"،وجدوا حبلا ملفوفا على عنقه مقطوعا من طرفه،والطرف الآخر لا يزال معلقا في سقف الغرفة.قيل إن "الهروي" اشترى حبلا،وأراد شنق نفسه،وبما أن جسده قوي جدا متماسك ثقيل،فلم يتحمل الحبل ثقل بدنه الضخم وقوة حركاته أثناء الإحساس بالاختناق.انقطع الحبل،ووقع "الهروي" فاقد الوعي.. يرجع "الهروي" إلى عربته وفواكهه الموسمية،وعاداته اليومية.يبدل جهدا كي يُبقي رأسه مائلا إلى الأسفل،كأنه ينظر إلى شيء ما ملقى على الأرض،محاولا بتلك الحركة إخفاء خط أزرق غامق مشوب بأحمر قان يلف عنقه، ذلك أثر ما تركه احتكاك عنقه بالحبل.أثر مقاومته للموت.لم يكن ما حدث إلا أن يزيد من اتساع دائرة الغموض التي تدور حول حياة هذا الرجل الذي التقى الموت،وصافحه،ثم عاد إلى الحياة.لكنه عاد صموتا كما كان،منطويا غامضا كما كان،عاد وهو يخفي أثر لقائه بالموت،عاد دون أن يحكي حتى عن سر ذهابه لذلك اللقاء القاتل. يمكن للمرء أن يخمن بسهولة أن غموض هذا الرجل يخفي وراءه حزنا لا يطاق وذكريات لا تحتمل.قليلون يشعرون أن "الهروي" رجل يتعذب بصمت،رجل ولته الحياة ظهرها،ولم تكشف له عن سرها الفاتن،أو لم يستطع هو أن يجبر الدنيا على الكشف عن مفاتنها.ربما هناك أهوال وأحزان مر بها وكابدها،جعلته يدير ظهره هو أيضا للحياة،ويزهد في فتنتها الأخاذة.لم يبح "الهروي" بأسراره وسبب إقباله على الموت حتى للذين يستلطفونه ويستلطفهم. لم تمر إلا أسابيع معدودة،لم يلاحظ "عمي اعمر"،ذات يوم،"الهروي" خارجا من غرفته،استبدت به الظنون، خاصة بعد تلك الحادثة المفجعة التي وجده فيها مغمى عليه،يدخل متوجسا غرفة "الهروي"،لقد هاله ما يراه أمامه، عند مدخل الغرفة كانت جثة "الهروى" معلقة تترنح في صمت ولا مبالاة.لقد اشترى "الهروي" هذه المرة حبلا أشد متانة من الحبل السابق.حبل قادر على أن يجعل لقائه بالموت لقاء جديا لا مزاح فيه.اشترى الحبل،حمل معه أسراره وغموضه وذكرياته الأليمة،ولى ظهره للحياة وذهب ليستقبل الموت بالأحضان.