ذكرنا في الجزء الأول من "قصة ربيع سمي عربيا" أن من أهداف تقسيم العالم العربي في مخطط "سايس/بيكو" هو عزل الثروة النفطية عن الشعب العربي،وترك العراق دون منفذ بحري بعد اقتطاع الكويت،لكن مع ذلك بقي العراق وسوريا ومصر وليبيا دولاً لها إمكانيات التطور والتمكن من "القوة الشاملة" واحتمال صياغة "وحدة ما" في المستقبل حتى ولو لم يكن قريبا،وهذا ما جعل هذه الدول مستهدفة وفي قلب مخططات القوى الغربية المهيمنة. قد يعتقد الكثيرون أن "العراق" لم يتم استهدافه إلا حينما غزا "الكويت"،بينما "غزو الكويت" لم يكن إلا مجرد الجزء الظاهر من حقيقة ما جرى.ذلك لأن أمريكا تعتمد منهاجا معينا في صياغة سياساتها بعيدة المدى،ويقوم بصياغتها "مجلس الأمن القومي"،حيث ترسم الأهداف البعيدة المدى،ويوضع مختصر التقرير بخطوطه العامة على مكتب الرئيس الأمريكي ويسمى "التوجيه الرئاسي"،ولا يهم كم من رئيس سيتناوب على ذلك المكتب الرئاسي،المهم هو السير على نفس الخطى الإستراتيجية،ولو قمنا بمراجعة خاطفة لهذه الخطوات،سنجد أنه في سنة 1917 كان التوجيه الرئاسي قد رسم هدفا عاما هو "إسقاط الإمبراطوريات" المتنافسة على المسرح الدولي، خاصة الفتية منها مثل ألمانيا وإيطاليا واليابان،لكن بعد الحرب العالمية الثانية برز "الاتحاد السوفيتي" قوة منافسة على الصعيد العالمي،ولهذا وضع على مكتب الرئيس "هاري ترومان" "توجيها رئاسيا" جديدا رسم هدفا عاما جديدا هو "إسقاط الاتحاد السوفيتي"،وفي نهاية السبعينيات تبين لمهندسي الإستراتيجيات السياسية في أمريكا أن "الاتحاد السوفيتي" ساقط لا محالة،وسقوطه ليس سوى مسألة وقت،وهكذا وضع على مكتب الرئيس "رونالد ريغان" "توجيها رئاسيا" مستجدا تضمن إستراتيجية جديدة هدفها العام هو "السيطرة على منابع النفط". هنا بالذات دخل "العراق" في سلسلة الأهداف الأمريكية،حين دخل "مدرج" مكتب الرئيس الأمريكي في البيت ألأبيض،"التوجيه الرئاسي" يرسم الأهداف العامة،ويبقى للرئيس الأمريكي وطاقمه الحاكم وضع "التكتيكات" الفعالة والضرورة للوصول إليه،ولا ننس أن "الحرب العراقيةالإيرانية" غدتها أمريكا بتسليح الطرفين،لأجل إطالة أمد الحرب،وإنهاك الطرفين،لأن إيران هي أيضا مستهدفة أمريكيا،وقد لعبت دول الخليج دورا كبيرا في هذا ألأمر بدعم "صدام حسين" خوفا من "البعبع" الشيعي إيديولوجا،وخوفا على استمراريتها في "احتكار" الثروة" في حقيقة الأمر،خصوصا وأن في دول الخليج عددا كبيرا من المواطنين الشيعة يحيون في قاع مجتمعات الخليج .إنهاك "العراق" كان هدفا.وقد حصل ذلك فعلا،خرج العراق بعد ثماني سنوات من الحرب الضارية ضد إيران منهكا ومفلسا،وكان ذلك سنة 1988،حيث ستبدأ أمريكا في بدء نسج خيوط المؤامرة ضد العراق،وقامت "الكويت" بدور "الطعم" العالق في "الصنارة الأمريكية" ومعها تواطؤ دول الخليج،خاصة الأخ الأكبر السعودي.بدأ "العراق" يطالب دول الخليج بتعويضات عن الحرب التي خاضها حماية لهم من "المد الشيعي"،غير أن دول الخليج لم تعر أي اهتمام لمطالب العراق الذي كان يعاني من أزمة مالية خانقة،وزادت "الكويت" الطين بلة،حين قامت بإجراءات أكثر خطورة بإيعاز أمريكي طبعا،حيث عمدت إلى استخراج النفط من حقل "الرميلات" وهو حقل متنازع عليه ويعتبره العراق داخل أراضيه،اعتمد "الكويت" في عملية استخراج النفط من ذلك الحقل على "تقنيات" مده بها الأمريكيون،وزاد الكويتيون بذلك من حصتهم في إنتاج النفط،الأمر الذي ساهم بصورة فعالة في انخفاض سعر "برميل النفط" في الأسواق العالمية،مما ألحق ضررا فادحا بالعراق الذي يعتمد أساسا في اقتصاده على تصدير النفط.قامت المخابرات الأمريكية بالتقاط صور للكويتيين وهم يسرقون نفط العراق،وقاموا بتمكين "صدام حسين" من رؤية ما يفعل به الكويتيون بالدليل "الملموس"،احتج "العراق" على "الكويت" في القمم العربية المتوالية آنئذ،ولم يلق من "جابر الأحمد الصباح" غير اللامبالاة ونظرات الاستهتار،وذات قمة وجه "جابر الصباح" الكلام ل"صدام حسين" قائلا :"لدينا أصدقاء أقوى منك"،ويقصد طبعا الأمريكيين،مما يعني أنه كان على علم بما يحاك أمريكيا ضد "العراق".استدعى "صدام حسين" السفيرة الأمريكية ببغداد "أبريل غلاسبي" وأخبرها بتدهور العلاقات مع "الكويت" وعدم نجاعة المفاوضات معهم،فردت السفيرة إن "أمريكا" لا تتدخل في العلاقات العربية العربية ولا شأن لها في ذلك !.لكن فيما بعد أنكرت السفيرة تصريحها ذاك،كما أنكره المدافعون عن أمريكا خاصة بعض "مثقفي" الخليج،لكن منطق تسلسل الأحداث وترابطها،لا يدع مجالاً للشك في أن لأمريكا اليد الطولى فيما جرى حينذاك. وفي النهاية،غزا "العراق" "الكويت"،أو بعبارة أخرى سقط في "الفخ" الأمريكي،وكانت "عاصفة الصحراء" بقيادة الجنرال الأمريكي " نورمان شوارتسكوف"،بعد دعاية إعلامية ضخمة ركزت على تضخيم إمكانيات "الجيش العراقي" لأسباب تتعلق بنفسية "المواطن العربي" البسيط حتى يترسخ لديه وهم إمكانية منازلة العراقلأمريكا،لكن في الواقع تم سحق جزء هام من "الجيش العراقي" من خلال ذريعة "تحرير الكويت"،وانتشرت حكايات عن جرائم حرب ارتكبها الأمريكيون ضد الجنود العراقيين،وفرضت أمريكا منطقتي حظر جوي على العراق في الشمال والجنوب،لحماية تمردات الشيعة والأكراد،وبعد ذلك فرضت "حصارا" قاسيا جدا دام ثلاثة عشر سنة،انتهى باحتلال "العراق". أول ما فعله "الحاكم" الأمريكي " بول بريمر" بعد احتلال العراق هو تفكيك "المؤسسة العسكرية" و"المؤسسة الأمنية" و"أجهزة المخابرات"، وفي ظل "فراغ" الدولة،أو حالة "اللادولة"،انطلقت أكبر فوضى عمت البلاد،تحت أنظار المحتل الأمريكي،لقد تم نهب كل شيء خاصة "المتاحف" حيث سرقت آثار لا تقدر بثمن،وقتل العلماء،واغتيل عسكريون،وتكونت الميليشيات للقادة السياسيين الجدد الذين دخلوا على ظهر الدبابة الأمريكية،وكثرت عصابات النهب والسرقة،وتدهورت الأوضاع إلى حد أصبحت الحياة في العراق جحيما لا يطاق.مؤسسة واحدة بقيت سالمة ومحمية أمريكيا حماية مشددة هي "وزارة النفط"!.أكمل "بريمر" مهمته بدعوة "الفرقاء" السياسيين إلى تكوين حكومة على أساس "المحاصصة الطائفية"،طبعا قبل هؤلاء ما يعرضه عليهم سيدهم ومولاهم،وبقبولهم "الطائفية" ساهموا،تحت إغراء المصلحة الشخصية في تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي،وفي التأسيس لاستحالة قيام "الدولة الوطنية"،وأصبح "العراق" "دولة فاشلة" بتخطيط أمريكي و"مباركة" نخبة من العملاء.ومن المفارقات الغريبة أن "السعودية" التي تصرخ دون توقف احتجاجا على تمدد "إيران الشيعية" في العراق،هي التي فتحت أراضيها وحدودها للجيوش الأمريكية والغربية وفتحت حدودها للعبور نحو تدمير العراق وإحداث الفراغ الذي ملأه الحضور الإيراني.وليس من باب المصادفة أن تقع حادثة مثيرة في البصرة لم يذكرها الإعلام المتواطئ آنئذ، حيث قبضت "الحكومة" العراقية على شخصين محملين بالمتفجرات،وتبين أنهما من المخابرات البريطانية،وخلال التحقيق معهما صرحا أنهما كانا ينويان تفجير "مجسد" للسنة و"حسينية" للشيعة،لكن القوات البريطانية التي ساهمت في احتلال العراق،تدخلت وحررت الشخصين بالقوة،وتم طمس الموضوع. لقد كان "تدمير" العراق بوابة فعلية وأساسية لما سيعرفه "الربيع العربي"،من خلال جملة من المؤشرات ،أولا زرع بذور الفتنة الطائفية في إطار "الدولة الفاشلة"،مما سيكون له انعكاس واضح على ما سيأتي من أحداث،زرع بذور الإرهاب عبر توفير المناخ الملائم والبيئة الحاضنة ل"القاعدة" وأخواتها عبر التطاحن العراقي على أساس ديني،تفكيك الجيش والشرطة ساهم في إمداد "القاعدة" برجال ذوي خبرة لا يستهان بها عسكريا وميدانيا ،لإلحاق أكبر ضرر ممكن في الجوار،خلق نموذج من "التقسيم" الطائفي والعرقي يغري بإمكانية تقسيم دول أخرى،دق إسفين طائفي بين الدول العربية وإيران،تحقيق ما ذهبت إليه "كوندليسا رايس" سنة 2006 حين أعلنت أن الشرق الأوسط يحتاج إلى "الفوضى الخلاقة".هي فعلا فوضى،لكنها أيضا في العلاقات الدولية وعلى مساحة العالم،ذلك لأن أمريكا التي هاجمت العراق ودمرته وحاصرته بحجة خرق القانون الدولي والاعتداء على دولة مجاورة وبحجة أنه أصبح "خطرا" على جيرانه،هي نفسها سوف تغزوه فيما بعد دون قرار دولي من "مجلس الأمن"،وتمت إدانة "العراق" والتنديد بفعلته دوليا،وفي المقابل لم يحرك أحد ساكنا حين غزت أمريكاالعراق !.أليس هي فوضى فعلا داخل عالم يعتمد القوة والقوة وحدها. بقي أن نشير أن الزعيم الليبي "القذافي" صرخ في إحدى القمم العربية المتعلقة باتخاذ قرار يجيز استخدام أمريكا القوة ضد العراق قائلا :"سيأتي دوركم جميعا،وما يحصل في العراق ليس سوى مقدمة".وهذا ما حصل،حتى "حسني مباركّ" الذي كان يعتقد أنه خادم أمريكا الأمين،سوف تتخلى عنه أمريكا فيما بعد.