اكتسح تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف اختصارا ب»داعش»، مناطق واسعة من العراق وفي وقت وجيز وكأنه عفريت خرج من قمقمه في سوريا ليبتلع كل هذه الأراضي العراقية باعثا الرعب في جنود الجيش العراقي الذين فروا بجلدهم دون القدرة على المقاومة منذ البداية. ثم أعلن هذا التنظيم في الأخير عن قيام الدولة الإسلامية، دولة الخلافة. وبغض النظر عما ستؤول إليه الأوضاع على المدى المتوسط على الأقل، فإن استمرار ضعف وتفكك الدولة العراقية سيتواصل بسبب الأوضاع التي خلقها العدوان الأمريكي على العراق سنة 2003. لا شك أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، في عهد إدارة بوش الابن على الخصوص وبقيادة مالكي الشركات البترولية ومنتجي السلاح، كانت تبحث عن أية ذريعة من أجل توسيع هيمنتها على حقول البترول، فاحتلال أفغانستان عقب هجمات 11 شتنبر مكنها من الوصول إلى مناطق البترول في دول الاتحاد السوفياتي السابق، ولكن المنطقة ذات الأهمية القصوى بالنسبة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية هي منطقة الخليج (البترول وحماية إسرائيل أولا، ودول الخليج ثانيا). ولذلك قررت إدارة بوش احتلال العراق ضدا على موقف مجلس الأمن الرافض لإعلان الحرب على العراق لعدم وجود دليل على امتلاكها أسلحة للدمار الشامل.. عمل الاحتلال الأمريكي والحاكم بريمر على تصفية أركان الدولة العراقية بتسريح الجيش العراقي وإطلاق يد الطابور الخامس (أغلبه من الشيعة..) في العبث بمقدرات الشعب العراقي، وانتهزت إيران هذه الوضعية الجديدة لمحاولة التحكم في مصير المجتمع والدولة العراقيين. كما أنشأت التنظيمات الشيعية ميليشيات مسلحة مستقلة عما بقي من جهاز الدولة. كل هذه الفوضى كانت تجري تحت لافتة الانتخابات وما سمي بالعملية السياسية التي قامت منذ البداية على المحاصصة الطائفية-القومية: رئيس الجمهورية من الأكراد ورئيس الحكومة من الشيعة ورئيس البرلمان من السنة، وكأن هذه المحاصصة نسخة مستوردة ومشوهة من النظام السياسي اللبناني. أدت هذه التطورات إلى وقوف ما بقي من الدولة العراقية على فوهة بركان الانهيار، وكان هجوم تنظيم داعش (دولة الخلافة الإسلامية) بمثابة تعرية قاتلة لهشاشة النظام السياسي العراقي. يعتبر الاحتلال الأمريكي وما ترتب عنه من فوضى داخل المجتمع والدولة العراقيين هو السبب الرئيسي في ما آلت إليه الأوضاع في بلاد الرافدين، لا شك في ذلك، ولكن بوادر ضعف الدولة العراقية قد تعود إلى ما يمكن أن يطلق عليه: «الخطيئة الأولى أو الأصلية»، وهي محو دولة من الوجود هي دولة الكويت. صحيح أن هذا السبب ليست له أهمية عملية اليوم، ولكنه ذو أهمية تاريخية. إذن، فلنحاول استعادة شريط الأحداث التي أدت إلى ارتكاب هذه الخطيئة: بعد نهاية الحرب بين العراقوإيران، طالب المرحوم صدام حسين الكويت والإمارات العربية المتحدة بتعويض الأضرار المالية التي تكبدتها الدولة العراقية في الحرب، رفضت الدولتان الاستجابة لطلب العراق، الأمر الذي أقلق القيادة العراقية. ضمن هذه الأجواء، جرى حديث مطول بين صدام حسين والسفيرة الأمريكية أبريل جلاسبي في 25 يوليوز 1990 تضمن عبارة عابرة على لسان السفيرة الأمريكية، مفادها أن الولاياتالمتحدة لا تتدخل في الخلافات بين الدول العربية، وهي عبارة قابلة للتأويل، وكأن السفيرة قد تقمصت شخصية حواء وتدعو صدام حسين إلى أكل التفاحة الكويتية، وفي 2 غشت نزل الجيش العراقي إلى أرض كاظمة (الاسم القديم لسكان الكويت) وأزال دولة الكويت من الخريطة، فألب عليه الرأي العام الدولي والعربي، وتشكل التحالف ضد العراق لاحتلاله دولة عضوا في الأممالمتحدة. كان الملك حسين هو الذي اتخذ موقفا معتدلا بدعوته إلى إيجاد حل سلمي للأزمة. أما على الصعيد الشعبي فقد اتخذنا موقفا معاديا لهجوم التحالف بقيادة أمريكا ونظمت مظاهرة ضخمة في المغرب احتجاجا ضد الحرب على العراق، كما أن الصواريخ التي وجهها الجيش العراقي إلى إسرائيل كانت قد دغدغت عواطفنا القومية. ونجح التحالف في إخراج العراق من أرض الكويت، وتعرض النظام العراقي لعقوبات قاسية أدت إلى تآكل الاقتصاد وضعف الدولة. ومما ضاعف من أزمة الدولة العراقية طبيعة الدولة المركزية العربية (الموصوفة بالديكتاتورية) والتي تتسم قيادتها بالفساد المالي والتوريث العائلي، وخصوصا في شروط الوضع العراقي الطائفية والقومية. صحيح أن العراق كان يحاول باستمرار ضم الكويت، ففي بداية الستينيات أراد عبد الكريم قاسم استعادة الكويت وضمها إلى العراق، وعارضه آنذاك جمال عبد الناصر الذي كان مثالا للزعيم القومي العقلاني فقد تنازل للسودان عن منطقة حلايب، وهي ليست دولة، درءا لإثارة أي نزاع بين البلدين، هذا فضلا عن عفته المالية وإبعاد عائلته عن مقاليد السلطة. وحتى تتضح أكثر طبيعة الخطيئة التي اقترفها العراق في حق الدولة العراقية، سنقارن بين استرجاع الصحراء المغربية واحتلال الكويت، فلو نجحت إسبانيا في إقامة دويلة تعترف بها الأممالمتحدة لأصبح من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، استرجاع الصحراء من طرف المغرب لأن إزالة دولة من الخريطة يستفز وجود كل الدول القائمة. عندما شن بوش عدوانه على الدولة العراقية كانت هذه الأخيرة قد أصبحت غير قادرة على ممارسة الحد الأدنى من مقاومة العدوان، فانهارت سريعا. والآن، ما هو مستقبل الدولة العراقية المنهارة بعد اكتساح الدولة الإسلامية لمناطق واسعة من البلاد، هذا التنظيم الذي يعتنق إيديولوجية «إسلامية» جاهلية؟ يبدو أن الدولة العراقية لن تتعافى وتحقق الحد الأدنى من الاستقرار في المدى المتوسط على الأقل، لا بسبب هجمات الدولة الإسلامية التي خلقت معادلات جديدة في علاقات الفرقاء اللاعبين في الساحة العراقية بين إيران، من جهة، والولاياتالمتحدةالأمريكية، من جهة أخرى، المتحالفتين في موضوع محاربة الدولة الإسلامية، ليس بسبب ذلك وإنما بسبب البنية السياسية التي تعتمد على تركيبة اجتماعية طائفية تسهل تدخل دول خارجية، وخصوصا إيران. إن الحل المثالي المجرد هو بناء دولة مركزية فيدرالية في العراق، ولكن الذي يعوق تحقيق هذا الحل هو أن الحكم الذاتي للسنة وللشيعة سيكون مجرد حكم طائفي وليس حكما إداريا كما هو الشأن بالنسبة إلى الأكراد، لأن حكما إداريا فيدراليا في العراق يتطلب وجود سلطة علمانية في الحكم مستقلة عن التأثير الطائفي، وفي شروط الصراع الإقليمي يصير هذا الحل المثالي بعيد المنال. علال الأزهر