تحولت العراق إلى حقل تجارب لأفكار اليمين الأمريكي المحافظ، الذي أشعل حربه الأولى على الإرهاب في أفغانستان، وتحول من مشروع لمحاربة الإرهاب إلى مصدر لانتشاره في دول الخليج العربي والعراق، ثم تحول نموذجه الديمقراطي الذي رغب في بنائه في العراق إلى كابوس حقيقي ونموذج فاشل لتجارب التغيير في العالم كله، ولولا صمود الشعب العراقي وصلابته وقدرته على التحمل والجلد لتحول العراق، الغني بثروته وأبنائه، إلى «صومال آخر». والحقيقة أن معضلة العراق أو نكبته الحقيقية كانت في صدام حسين والمحافظين الجدد، فالأول الذي بنى صروحا ضخمة وعملاقة في ربوع العراق، ويدهشك حين تذهب إلى العراق أن المباني الرئيسية من المطار إلى فندق «الرشيد» بنيت في عهد صدام، وحتى كثير من الجامعات والمباني الحكومية وما تبقى من الصروح الصناعية هي من العصر السابق. وعرف الشعب العراقي في عهده الأمن في شوارعه، ولم يشهدوا السيارات المفخخة، ولا القتل على الهوية المذهبية، كما جرى بعد الاحتلال الأمريكي، وكان استبداده وديكتاتوريته في مواجهة معارضيه، ولم تشعر بهما غالبية الشعب العراقي. أما كارثة «صدام» فكانت في هذا الغرور والصلف، المصحوب بالرعونة الشديدة، فدخل حروبا على طريقة هتلر، متصورا إياها نزهة، فبدأ بإشعال الحرب ضد إيران في 1980 وخلف ما يقرب من 400 ألف قتيل، ثم غزا الكويت في 1990، وخرج مهزوما، دون أن يُقدم على مدار أكثر من 10 سنوات على إصلاح واحد في بنية نظامه. وإذا سلمنا، فعلا، بأن الولاياتالمتحدة قد نصبت فخا للنظام العراقي لكي يحتل الكويت، وبالتالي سهلت من مبررات ضربه، في عامي 1991 و2003، فإن مسؤولية النظام العراقي في ابتلاع هذا «الطعم» وسقوطه في الفخ الكويتي هائلة، ولا يمكن إنكارها. ولعل خطورة تلك النظرة إلى «القدر الأمريكي» تكمن في أنها تحكم علينا بالفشل الدائم، لأننا سواء أخطأنا أو أصبنا، وسواء بنينا أنظمة ديمقراطية ذات كفاءة اقتصادية وسياسية أو ديكتاتوريات معدومة الكفاءة، فإن النتيجة واحدة هي هزيمتنا أمام الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وفق نظرية المؤامرة. والحقيقة أن نوازع الهيمنة الأمريكية لا تحتاج إلى برهان، وعدوانية إدارة بوش السابقة لا تحتاج، بدورها، إلى تأكيد؛ ولكن من المؤكد أن هناك مساحات واسعة تحدد معايير الفشل أو النجاح والنصر والهزيمة تتحملها كفاءة نظمنا السياسية العربية، وطريقة إدارتها لعلاقاتها الخارجية، ولذا سنجد أنه في الحالة العراقية كان يمكن، بلا شك، فرض واقع جديد على الإدارة الأمريكية، في حال ما إذا أقدم النظام العراقي، طوال الفترة التي أعقبت هزيمته، بعد حرب تحرير الكويت عام 1991، على مراجعات وتغييرات داخلية عميقة كان من شأنها أن تغير من الواقع الذي فرضه غزو صدام للكويت، ولا تؤدي إلى اتخاذه هذا القرار الكارثي. ومنذ غزو الكويت حتى الوضع الحالي، سقط في العراق حوالي 600 ألف قتيل، بفعل الحروب الخارجية، وبفعل الاقتتال الداخلي، (ليصل الرقم إلى مليون، بعد إضافة ضحايا الحرب الإيرانية)، والذي أعقب أول تجربة استئصال وتفكيك نظام في العالم العربي، بفعل غزو خارجي، وهنا سنجد أن سلطة الاحتلال الأمريكي التي قادها «بريمر» قد بدأت في اتخاذ سلسلة من الإجراءات استهدفت هدم الدولة العراقية وتفكيكها، وليس فقط مطاردة رموز النظام القديم ومحاسبتهم، فسرّحت الجيش العراقي المحترف وفككته، وهدمت مؤسسات الدولة الوطنية من أجهزة أمن وإدارة، عن طريق قانون اجتثاث «البعث» الذي استهدف الجهاز الإداري، الذي ضم موظفين أُجبروا على أن يكونوا بعثيين، واستهدفتهم، بعد سقوط النظام، وشايات «رفاقهم»، الموظفين الذين ادعوا بطولات زائفة ومعارضة وهمية للنظام السابق، على طريقة ثوار ما بعد الثورة في مصر، وكانت فرصة لتصفية الحسابات. صحيح أن الدولة في العراق لم تعرف أي فارق يذكر بينها وبين النظام السياسي، فلم يكن هناك قضاء ولا جيش يمكن أن يتخذ قرارا مثل الذي اتخذه الجيش المصري، أثناء الثورة، ويتخلى عن النظام، ممثلا في مبارك، ولو حفاظا على الدولة، ومع ذلك فإن الفراغ الذي أحدثه انهيار الدولة في العراق، ثم إعادة بنائها، في لحظة استقطاب سياسي جعلت البديل يبدو في أعين الكثيرين أسوأ مما كان موجودا من قبل، فأجهزة الأمن اخترقت من قبل التنظيمات الشيعية، وتحركت في كثير من الأحيان بشكل طائفي، خاصة أنها جاءت تحت ضغط عمليات إرهابية قام بها، ولا يزال، تنظيم القاعدة، مستهدفا الشيعة العراقيين، وأن القضاء الذي أعيد بناؤه على أسس جديدة لم يهرب أيضا من المحاصصة السياسية والطائفية، حتى الجيش خضع لحسابات كثيرة جعلت نموه بطيئا. والحقيقة أن استسهال مسألة هدم الدولة وحل المؤسسات، بغرض تطهيرها، يمثل كارثة حقيقية لم تشهدها تجربة تحول ديمقراطي ناجحة في العالم كله من أمريكا الجنوبية إلى أوربا، وأن هدم الجيش وتفكيك الإدارات، تحت حجة اجتثاث «البعث»، لم يكن فقط خطيئة، وإنما جريمة مكتملة الأركان. وقد صعّب من الوضع العراقي البعد الطائفي في الموضوع، فوفق تقديرات محايدة، يقدر عدد شيعة العراق ب55 في المائة مقابل 45 في المائة للسنة (يتحدث بعض السنة عن مساواة في العدد وبعض الشيعة عن 60 في المائة لهم)، والعراق منذ تأسيس مملكته في 1921 في أعقاب ثورة 1920 وهو يحكم بما يمكن أن أسميه، وفق التوصيفات اللبنانية، ب»السنية السياسية»، فسواء كان النظام ملكيا أو جمهوريا، كان مْن على رأسه سنيا. صحيح أن هذه النظم في مجملها لم تكن نظما طائفية، وأن نظام صدام حسين كان نظاما استبداديا وليس طائفيا، حتى لو كان جزء كبير من ضحاياه من الشيعة، ليس باعتبارهم شيعة، إنما باعتبارهم معارضين ومنتمين إلى أحزاب دينية. وتغير الوضع بشكل جذري، بعد الغزو الأمريكي، ولم يتم بشكل تدريجي، وجاءت الأحزاب الشيعية إلى الحكم عنوة، وهو ما جعل هناك شعورا لدى قطاع يعتد به من السنة بأن النظام الجديد يمثل الشيعة، ولا يمثلهم، وهو غير دقيق، تماما مثلما شعر قطاع من الشيعة بأن النظام السابق كان نظاما سنيا، وهو أيضا غير صحيح. إن التحول الفجائي في تركيبة السلطة العراقية يفسر جانبا كبيرا من الأزمة الحالية، فالتجارب الناجحة في أوربا والعالم الإسلامي كانت دائما هي التي تنجح في بناء نظام سياسي قوي ينفتح على التيارات والقوى الجديدة، ويسمح لها بالدخول والتغيير عبر عملية سلمية وديمقراطية متدرجة، وهذا ما جرى مع الإسلاميين في تركيا، ومع تيارات ثورية في أوربا 68، ولم يحدث في العراق مع الأحزاب الشيعية، أو في مصر مع الإخوان المسلمين، فكان التغيير فجائيا، وكان وصولهما إلى الحكم، دون فترة انتقالية، صادما للأطراف المناوئة، بالمعنى المذهبي أو السياسي. إن نجاح العراق في تجربته الديمقراطية الوليدة سيبدأ حين يحدث تداول للسلطة يشعر فيها السنة بأن السلطة لم تحتكر لطرف آخر، كما احتكروها هم في العصور غير الديمقراطية، وأن النجاح في ذلك سيعني في الحقيقة بناء مساحة سياسية جديدة تتجاوز الاستقطاب الطائفي، ولا تتخيل أن العراق سيعيش دون شيعة أو سنة، ونفس الأمر في مصر حين سيكتشف الجميع أن كراهية سياسات الإخوان لا تعني أنهم ليسوا شركاء في الوطن.