"سبتة" فرضة بحرية محصنة على سواحل "المغرب" الشمالية تجاه مدينة جبل طارق، كانت تشكل مع جبل طارق ما يعرف باسم "أعمدة هرقل" وهي كما قال ياقوت الحموي في معجم البلدان : "بلدة مشهورة من قواعد بلاد المغرب، تقابل جزيرة الأندلس على طرف الزقاق الذي هو أقرب ما بين البر والجزيرة، وهي مدينة حصينة تشبه المهدية لأنها ضاربة في البحر، داخلة كدخول كف على زند" وقد كانت "سبتة" من الأمصار القديمة قبل الإسلام، وكانت قبل الفتح الإسلامي للأندلس منزل "يوليان" ملك "غمارة" ولما زحف إليه موسى بن نصير بعد فتح "طنجة" صانعه بالهدايا، وأذعن للجزية، فأقره عليها، واسترهن ابنه وأبناء قومه، ولما هلك "يوليان" استولى العرب على "سبتة" صلحا من أيدي قومه فعمروها، وبقيت في أيديهم حتى تمكن "يوحنا الأول" البرتغالي من احتلالها عام 1415م… لما أراد أمير المسلمين في المغرب "يوسف بن تاشفين" زعيم المرابطين رحمه الله فتح الأندلس ليرد عنها كيد الصليبية استجابة لاستنجاد ملوك الطوائف الذين كانوا قد شغلوا بالمنازعات فيما بينهم عن الخطر الداهم، سار من مراكش إلى"سبتة" وأقام فيها، وسير العساكر منها إلى الأندلس حيث نزل بالجزيرة الخضراء عام (479ه) والتقى بجيوش "ألفونس السادس" ملك قشتالة، وحقق الانتصار الحاسم في موقعة (الزلاقة يوم الجمعة 15 رجب 479ه) وذاع صيت "يوسف بن تاشفين" الذي لم يشتهر كقائد حربي مجاهد فقط، بل إن شهرته العلمية فاقت ذلك، فقد كان محبا للعلم وأهله، لا يقطع أمرا دونهم حتى انقطع إليه – كما يقول صاحب "المعجب" – من الجزيرة من أهل كل علم فحوله. واجتمع له ولولده من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار… نسب إلى سبتة جماعة من أعيان العلم، منهم: ابن مرانة السبتي، الذي كان من أعلم الناس بالحساب والفرائض والهندسة والفقه. وله تلامذة وتآليف، ومن تلامذته: ابن العربي الفرضي الحاسب… وكان "المعتمد بن عباد" يقول اشتهيت أن يكون عندي من أهل "سبتة" ثلاثة نفر : ابن غازي الخطيب، وابن عطاء الكاتب، وابن مرانة الفرضي… فيها ولد القاضي "عياض" بن موسى اليحصبي السبتي بعد أن اختارها والده لتكون مقر إقامة لهم بدل "فاس" لما تتمتع به من موقع جعلها صلة وصل بين الشمال الإفريقي والأندلس، ففيها يلتقي الوافدون على الأندلس والعائدون، يتبادلون الآراء والأفكار وتتلاقح علوم المشرق والمغرب.. واستمرت "سبتة" تؤدي دورها إلى أن وقعت فريسة الاحتلال الصليبي البرتغالي بسبب الفساد والانحلال والتقاتل الذي ساد بين المسلمين في هذه الفترة… حاول المسلمون استرداد مدينة "سبتة" من البرتغاليين بعد عجز هؤلاء عن احتلال "طنجة" وهزيمتهم عام 1420م ولم يتمكنوا من ذلك، وفي عام 1476م حاول السلطان المغربي الوطاسي"محمد الشيخ"(1471-1504) استردادها وفشل أيضا، وفي مارس 1480م أطلقت إسبانيا يد البرتغال في الموانئ المغربية ومنها "سبتة"، وفي الفترة التي بدأت فيها قوة العثمانيين بالظهور في البحر المتوسط ووصول نفوذهم إلى الجزائر وتلمسان (1518م) ووقوفهم في وجه الأطماع البرتغالية والإسبانية في شمالي إفريقية. واشتداد المقاومة المغربية للوجود البرتغالي في ثغورهم بدأت بعض الأصوات البرتغالية ترتفع مطالبة بضرورة الجلاء عن هذه الثغور أو بعضها والانصراف إلى العالم الجديد، مع الإصرار على الاحتفاظ بمدينة "سبتة" وكان رأي وزير المالية البرتغالي آنذاك "بناء حصون وقلاع جديدة لا التخلي عن الحصون القديمة، واللجوء إلى النصارى في أوربا كلها إضافة إلى البابوية لدعم الحاميات البرتغالية في الثغور المغربي". وفي عام 1574م زار الملك البرتغالي "دون سبستيان" مدينة "سبتة" لأنه كان يريد متابعة الحرب ضد المسلمين في شمالي إفريقية بهدف توجيه ضربة جديدة إلى الإسلام، وليقف بنفسه على الأوضاع في هذه الثغور، وطلب من خاله "فيليب الثاني" ملك إسبانيا مساعدته، فأمده بسبعة آلاف جندي من الإسبان والإيطاليين ومن الفاتيكان والألمان، إلى جانب وقوف بعض الخونة إلى جانبه من أمثال "عبد الله المتوكل" الطامع بحكم المغرب والذي كان قد توجه إليه مستنجدا به ضد عمه ملك المغرب "عبد الملك بن مروان السعدي" والتقى الجيشان المغربي بقيادته وهو مريض محمول على محفة وسط الجيش وإلى جانبه أخوه المنصور والبرتغالي بقيادة الملك "دون سبسيتان" المدعم من إسبانيا والفاتيكان وسواهما من دول أوربا في 4 غشت 1578م. ودارت المعركة التي تعرف في تاريخ المغرب ب "معركة وادي المخازن" أو "معركة الملوك الثلاثة" حيث انتصر القلة المؤمنة على الكثرة، وكان من القتلى الملك البرتغالي نفسه ومعه "المتوكل" الخائن… أما السلطان عبد الملك فقد وافته المنية أثناء المعركة رحمة الله عليه. وكان من نتيجة هذه المعركة انقراض الأسرة الحاكمة البرتغالية : الأمر الذي أدى إلى ضم العرش البرتغالي إلى التاج الإسباني، وانتقال الممتلكات البرتغالية ومنها "سبتة" إلى النفوذ الإسباني في عهد الملك الإسباني "فيليب الثاني"، وكان ذلك قد تم عام 1580م، وقد حاول المسلمون في هذه الفترة أيضا استرداد "سبتة" وتمكنوا في عهد "مولاي إسماعيل" من محاصرتها ولكن لم يقدر له أن يفتحها… وبعد انفصال البرتغال عن إسبانيا تنازلت لها عن "سبتة" بموجب معاهدة "لشبونة" 1668م وأصبحت المدينة منذ ذلك الحين مركزا إداريا وعسكريا للمحمية الإسبانية في المغرب، ولم يهدأ المسلمون وتابعوا شن هجماتهم. وقاموا بمحاولات متعددة لتحرير "سبتة" خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين ولم يقدر لهم فتحها رغم تمكنهم من محاصرتها مرات عديدة. وعندما تدخل "نابليون بونابرت" في إسبانيا خشي الإنجليز أن يسعى المغاربة لاغتنام الفرصة فيستولون على "سبتة" وكانوا يعتبرونها مما يجب الاحتفاظ به فاحتلوها من عام 1810 م إلى عام 1814 م ثم ردوها في هذه السنة إلى إسبانيا. وفي مستهل عام 1860 م تمكن الإسبان من احتلال مدينة "تطوان" وأجبر المغرب بعد تدخل بريطانيا على توقيع اتفاق مع إسبانيا تنازل فيه للإسبان عن بعض الأراضي حول "سبتة" وضمت القلعة، و"مليلية" لأنها تلزمهم للدفاع عن مواقعهم فيها مقابل جلائهم عن "تطوان". ومنذ عام 1874م أصبحت "سبتة" مقرا للقيادة الإسبانية في إفريقيا، و"سبتة" اليوم تخضع خضوعا تاما للإدارة الإسبانية، والأطفال الذين يولدون فيها – مسلمين أو نصارى – يعتبرون من الإسبان، وتطبق عليها جميع القوانين الإسبانية، وهي قاعدة عسكرية إسبانية كبيرة. لقد اضطررت إلى كتابة هذا الموجز البسيط والقليل من الكثير عن تاريخ سبتة السليبة بعد أن تيقنت بنفسي بأن الكثير من المغاربة يجهلون تاريخها، وكل ما يعرفون عنها هو تهريب الأموال عن طريقها واقتناء السلع مع الأسف الشديد. والله الموفق 11/08/2012