قامة العدل و حسن سير الملفات هو الهدف الأسمى للقضاء، الذي يعتبر مسؤولية عظمى دعامتها الأساسية نصرة الحق و دحر الباطل ، و الفصل في دماء و أعراض وأموال البشر،لذلك فالقاضي يتبوأ مكانة سامية في المجتمع ،باعتباره يمسك الميزان و يوازن بين كفتيه ،و يلف وشاحا أسود حول عينيه ،و يحكم بالحق، لينتشر الأمان و الاستقرار،و ليسود العدل الذي هو أساس الملك. لذلك فالقاضي العادل لا بد له أن يتحلى بمكارم الأخلاق بالدرجة الأولى- اتقاء للشبهات - وأن تتدفق منه شيم الخير و تتوفر فيه عفة النفس و النزاهة و الاستقامة والكفاءة الفنية ،و أن يكون بلغ سنا معينة للنضج، لتحمل هاته المهمة الثقيلة، فالقاضي غير الكفء،كما يقول أحد القضاة في محكمة العدل الدولية،و يدعى هيوز:" ... هو شر بلية يمكن أن يصاب بها المجتمع ، ذلك لأنه إن كان في وسعك أن تمتنع عن التعامل مع أي تاجر لا يروق لك، فإن هذا ليس هو الشأن مع القاضي. فإنك تقف أمامه مضطرا يتصرف في حاضرك ومستقبلك،ولا مندوحة لك أن تبسط حججك أمامه .. وما أسوا المصير الذي ينتظرك على يديه إذا كانت تنقصه الكفاية في الخلق أو العلم أو في كلاهما .. ومهما يكن حسن النية ،فان ذلك لا يعوضك شيئا يكون قد أصابك من ضرر على يديه" و القاضي ملزم باستخلاص حق الضعيف من القوي، ورد جور الظالمين النافذين عن المظلومين الضعفاء،و يحسم بجرأة-ولو كلفه ذلك حياته و مستقبله المهني- في القضايا الحساسة و الساخنة، طبقا لما ينص عليه القانون، الذي يعتبر تاجا فوق جميع السلطات. فالقاضي المؤمن بوظيفته تجري العدالة في شرايينه ،و تنبع من ضميره المشع، لذا فدوما تجده غارقا في كتب فقه القانون و الاجتهادات القضائية،يشحذ ذكائه و يزداد حكمة و معرفة،لاستجلاء الوقائع المعقدة أو الغامضة. يتجلى الدور المحوري للقاضي في السهر على حسن سير الملفات ،و إيجاد قضاء نزيه و فعال و مستقل و تفسير و ملائمة النصوص القانونية مع الوقائع المطروحة أمام يديه، يطبق القانون تطبيقا سليما بعيدا عن الضغوط السياسية و الحزبية التي قد تأثر على مجرى الأحكام ، مما يرفع تلك الهالة و القداسة المتخيلة عن سيادة القانون لدى العامة .فالقاضي العادل هو ذلك العفيف الورع القنوع المكتفي بالعيش الحلال ، أما القاضي السيء هو الذي تراه يرفل وأقاربه في الدمقس و الحرير،و يمتلك السيارات آخر موديل ،و الفيلات الفخمة،و الأرصدة البنكية الدسمة باسم زوجته أو أبنائه ،و يقيم ليالي ألف ليلة و ليلة ...و لتجنب مثل هاته الأفعال الضارة بحقوق الأفراد يلزم توفير الراحة و الطمأنينة للقاضي،و أن يحضا بمستوى مادي يحفظ كرامته و يجابه به تكاليف الحياة،و كمثال حي على ذلك ثم المس لأول مرة بمرتبات القضاة اليونانيين و التقليص منها لمواجهة رياح الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعديد من القطاعات الأوربية. و في نفس السياق قال ماريشال أول رئيس للمحكمة العليا الأمريكية:" حتى تتحقق المصلحة العامة،و يكون القاضي مستقلا تماما في عمله ، فلا يؤثر عليه سوى ضميره ووجدانه يجب أن يصان مرتبه،فلا ينتقص بأي شكل من الأشكال حتى لو كان ذلك تحت ستار ضريبة تفرض على المرتب". في القرن الماضي ، أقام قاض يدعى "مانيو" فرنسا كلها و لم يقعدها ، على إثر إصداره حكما مشهورا يعرف "بقضية مينار" بمحكمة "بواتيي" ،مفاده أنه في سنة 1898 اضطرت "لويز مينار"،و هي شابة في الثالثة و العشرين من عمرها إلى سرقة قطعة خبز عنوة بقيمة زهيدة،بعدما تضورت جوعا معية ولدها و أمها العجوز، طيلة ستة و ثلاث و ستين ساعة متواصلة،و بعد إحالتها على المحكمة التي يرأسها القاضي المذكور ،نظر إليها بملامحه الصارمة وقال للشابة الخجولة: - قفي أيتها المتهمة، و قولي لي كم عمرك؟ - خمس فصول ربيع سيدي...لا أكثر. حدق فيها جيدا و قال لها: - لماذا اقترفت هاته السرقة؟ فقالت له بنبرة ندم: - أنا أعترف أمامكم بأنني قمت بهذا الفعل، لكن لدي طفل يبلغ عامين من العمر لم يعنه أحد ،كما أن جدتي كانت جائعة،و بحثت عن العمل و لم أجده، لا نأكل إلا ما يمنحه لنا المكتب الخيري بشارلي،من قطعة خبز تزن كيلوغرامين و رطلين من اللحم طيلة مدة طويلة، لم تكن لدينا نقود... فقال القاضي: -إنه من المؤسف أن يوجد بيننا من هو أقل غنى...يال المسكينة... قررت المحكمة عدم مؤاخذتها،و قد عللت قضائها أنه" لئن كان من المؤسف أن مجتمعا في غاية التنظيم ،و يضم بين أعضائه ربة أسرة تفتقر إلى الطعام ،و لا تدخر جهدا للحصول عليه ،و إن هذه الحالة حينما تكون قائمة ،و هي كذلك ،و هي بشكل واضح بالنسبة للمتهمة "لويز مينار"،فإن القاضي قادر،بل ملزم بقراءة تنصيصات القانون الصارمة بعين إنسانية ،وإنه لمن شأن الجوع حرمان أي كائن بشري جزءا من حريته في الاختيار بإضعاف قدرته على التمييز بين الخير و الشر،وإن أي فعل يكون عادة جديرا بالعقاب،و يرتكبه شخص بدافع الحصول على طعام لا غنى عنه ،إن هذا الفعل يفقد طابعه الغشي، حينما يكون مرتكبه مدفوعا بغريزة الحصول على قوت أساسي ،و الذي بدونه يأبى الكيان الجسماني لأداء وظيفته". بعد تسعة أشهر، قام نفس القاضي بتبرئة متشرد يبلغ من العمر سبعة عشر عاما،غادر عمله و توبع سابقا من أجل جنحة تسول الخبز،و أودع ملجئا و فر منه و حاول السفر خلسة عبر القطار نحو بلجيكا للحصول على عمل، لكنه ألقي عليه القبض لعدم أداء تذكرة السفر،وفي يوم 20 يناير من سنة 1899،علل القاضي "مانيو" حكمه بإخلاء سبيل الفتى بأن المجتمع من واجبه الأول هو مساعدة أعضائه المتضررين و التضامن معهم. بعد شهرين من ذلك، قام نفس القاضي بإخلاء سبيل رجل متسول و متشرد ذو سوابق، استنادا على خبرة طبية، ومراعاة لحالته النفسية، و بأنه ليست له القدرة لكي يتكفل برغبات حياته. هاته القضايا ،و بالخصوص قضية مينار حركت الرأي العام الفرنسي ،و انعكس النقاش الفقهي و القانوني على الجرائد، فجرائد "لوجورنال دي ديبا"و"لاروبيبليك فرانسيز"،و "ليكو دو باري" كلها صبت جام غضبها على القاضي لأنه برئ سارقة تستحق العقاب كجزاء على فعلتها،و ذكرت جريدة" لوفيغارو" القاضي بأن " للملكية حقوق "،و دعت على أن يقتصر الحكم على الأقل على وقف التنفيذ.و اعتقد بعض الملاحظين بأن القاضي مانيو ربما تأثر بتعاليم الكنيسة و بحكم صدر عن القاضي الإنجليزي " هاوكينز"، والذي سبق له إطلاق سراح سارق قطعة خبز.على إثر تلك الأحكام المثيرة للجدل، انقسم الرأي العام الفرنسي إلى تيارين أساسيين حول دور القاضي ومكانته داخل المجتمع: تيار أكد على أن القاضي ملزم بتطبيق القانون و ليس تحريفه عن مساره الصحيح،لأن ذلك من شأنه خلق الفوضى و الإفلات من العقاب والتشجيع على ارتكاب جرائم أخرى، لذلك يجب عليه إتباع ما رسمه المشرع،لا أن يتعالى عليه أو ينزل دونه،بلا زيادة أو نقصان،و دون الانزلاق وراء الأهواء الشخصية أو الإيديولوجية أو السياسية، و ترجمتها في حيثيات حكمه.و تيار آخر رأى أن القاضي إنسان بالدرجة الأولى،لا ينفصل عن المجتمع ،و عليه ملائمة نصوص القانون مع ضروريات الحياة لأن العلاقات الإنسانية تتعقد بطبيعتها ، يوم عن يوم ،و يجب عليه أخد تحولات المجتمع،و التطور التكنولوجي بعين الاعتبار.ولما سألت وسائل الإعلام الرئيس الفرنسي" جورج كلمنصو" عن ذلك القاضي الغريب الأطوار، قال بأنه مثال للقاضي الطيب. رحل هذا الأخير، و نقش على جدار قبره جملة: هنا يرقد القاضي الطيب،و بقيت أحكامه المجسدة للقيم الإنسانية و العدالة و الديمقراطية التي آمن بها و دافع عنها و مارسها طيلة حياته . وفي فبراير سنة 1997 تعاد نفس فصول القضية في إحدى قاعات محكمة "بواتيي"،و تتهم شابة لا تتوفر على أي مورد مالي بسرقة قطعة لحم من سوق ممتاز في مدينة " نيور"،و حصلت على إخلاء سبيلها، من طرف القاضية " لورانس نويل" رئيسة المحكمة ،و استأنفت النيابة العامة الحكم، الذي رفض في الحادي عشر أبريل 1997، لتبقى روح القاضي "مانيو" مرفرفة داخل قاعات المحاكم الفرنسية. أصبح العديد من المهتمين بالحقل القانوني ،في الدول النامية، يفاجئون في السنوات الأخيرة بالعديد من الأحكام المعيبة مردها الرئيس إلى تدهور المستوى القانوني و المعرفي في الجامعات ، و سيادة سوء التدبير و التسيير من طرف مديري معاهد و مؤسسات التعليم العالي ... مما انعكس سلبا على المنظومة القضائية برمتها . أسباب و مشاكل لم نعد نجد معها لا القاضي العادل ولا الطيب ذو القلب الحنون ... بل فقط القاضي الجاهل، الذي لا يفقه- إلا النزر اليسير- بفنون و أخلاقيات هاته المؤسسة النبيلة، وتجده – و يال الأسف- يحول قلمه الأنيق الموقع به أسفل الأحكام إلى سيف بتار يسلب به من الأبرياء لذة الحياة و الحلم و الدفء الاجتماعي... هشام النخلي .